2024-05-19 11:25:02
كم نحن مساكين حين نكون "مُتَرَهِّلين" ضعفاء في علاقتنا مع الله ومع ذلك نظن أنه "ماشي الحال" لأننا نتجنب الكبائر ونحب الله والظاهر من إنعام الله علينا أنه راضٍ عنا!
أقول هذا لأني عشت في ليلة من ليالي رمضان الماضي تجربة تُحفر في الذاكرة:
منَّ الله علي بأن صليت قيام الليل خلف أخٍ رقيق القلب مع القرآن رقة عجيبة، ركعتين قرأ فيهما من سورة آل عمران. وكان فيهما يبكي بكاء متصلاً، بالكاد يستجمع نفسه ليقرأ الآيات بصوتٍ رقيق خاشع.
علماً بأن هذا الأخ "مزيح" خفيف الظل محبب الشخصية.
ومع أني أحب القرآن منذ طفولتي حباً عظيماً، وتتملكني رهبة لا يعبر عنها وأن أقرأ أو حتى أتذكر بعض آياته، وأبكي لها في بعض خلواتي، إلا أنني أحسست -وأنا أسمع تلاوة الأخ- أحسست بشيء من الحرمان!
أكتب هذا الكلام مع أن الأصل في الإنسان أن يستر نقائصه، لكني أكتبه درساً بليغاً لإخواني وأخواتي، وأسأل الرحمن الرحيم منزل الكتاب أن يجعل هذا المقال سبباً لينظر لي سبحانه ولقلبي نظر رحمة فيلقي في قلبي رقةً كالتي منحها لهذا الأخ وزيادة.
الدرس البليغ: إياكم يا أحبة أن تظنوا أنه "ماشي الحال" ما دام الله ينعم علينا ويستر عيوبنا ويوفقنا للصلاة وسائر الفروض -ولو بروح ميتة !- ويجنبنا الكبائر -مع أننا قد نفعل ما هو عند الله كبائر ولكن مجتمعاتنا تعوَّدَتْ عليها وتبلَّد إحساسنا تجاهها!
لا والله! مش ماشي الحال!
مش ماشي الحال لما نكون يعيش أحدنا 30، 40، 50، 60 سنة أو أكثر، ولم يَنعم بقراءة كهذه للقرآن يوماً، ولم يعش هذه المعاني التي تهز قلب هذا الأخ وتُجري دموعه كلما تلا آيات ربه، أو في أحسن الأحوال قلما يعيشها.
مش ماشي الحال لما نكون محجوبين عن هذه المقامات الرفيعة في العلاقة مع الله ومع ذلك لا نحس بالحجب والحرمان لأننا -بسذاجة شديدة- نكتفي بأننا أحسن من غيرنا!
مش ماشي الحال لما نكون لا ندرك وجود هذا النعيم الدنيوي العظيم فضلاً عن أن نطلبه!
مش ماشي الحال لما نكون نحرم أنفسنا من رتبة متقدمة من الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده، والتي نرى إخوة لنا في غزة يعيشونها على الرغم من شدة مصابهم، لكن مع ذلك يستحضرون أنهم في كنف الله فيهون عليهم كل مصاب فيما نحسبهم.
قد ندخل الجنة في النهاية، إذا عفا الله عنا بلطفه وكرمه..لكن تذكروا قول نبينا ﷺ: (إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّها اللَّهُ لِلْمُجاهِدِينَ في سَبيلِ اللَّهِ، ما بيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ)...هذه درجات للمجاهدين في سبيله! فضلاً عمن دونهم، ومع ذلك فهي متفاوتة هذا التفاوت الهائل جداً جداً !
لماذا؟ لأن التفاوت في أعمال القلوب هو كذلك أيضاً ! تفاوت هائل جداً جداً !..جداً!
لذلك يا شباب، أوصي نفسي وإياكم: لا تضيعوا هذه اللذات والمقامات العلا لأجل شهوة محرمة أو انغماس مفرط ولو حتى في الحلال، ولا لأجل كسل وبلادة، ولا خوفاً من أحد ولا رغبة فيما عنده. فوالله إن الحرمان بشع! ووالله إن هذا الرزق الذي يرزق الله به عباده في الدنيا من رقة القلب لهو خير من الدنيا وما فيها، فما بالكم بما عنده يوم القيامة؟!
﴿ لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ﴾ [ آل عمران: 198].
ختاماً: من استفاد من هذه الكلمات، فليدعُ لكاتبها بظهر الغيب أن يرزقه ما رزق صاحبه من رقة القلب وزيادة، علماً بأني أرسلت له ألا يطلع على ما سأكتبه اليوم لئلا يدخل قلبه ما يفسد عليه نعيمه.
اللهم إنا نعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع. عامِلْنا يا رحمن السماوات والأرض ورحيمهما بما أنت أهله من التفضل والكرم والإنعام.
والحمد لله رب العالمين.
37.6K views08:25