و في محاولة أخرى لإضاعة الوقت طلب سكلاريوس من أبي عبيدة أن يرسل إليهم رجلا منهم ليتفاوضوا معه ، فاختار أبو عبيدة لهذه المهمة الخطيرة الصحابي الجليل : معاذ بن جبل رضي الله عنه .. ، فتوجه المفاوض الجليل .. وحده .. إلى وكر الضباع في بيسان ، ولم يخش على حياته ..
.. ، ووصل إلى مقر القيادة الذي يجلس فيه سكلاريوس ، و من حوله كبار قادة جيوشه و مستشاروه .. ، فوجدهم يفرشون الأرض بالبسط الحريرية ، و يجلسون في قاعة فخمة مجهزة بكل وسائل الرفاهية المتاحة وقتها .. ، فرأى مقاعدهم مرصعة بالجواهر الثمينة ، و رآهم قد وضعوا الوسائد الناعمة من الحرير الخالص في كل ركن من أركان تلك القاعة الفخمة ..!!!!
فتعجب سيدنا / معاذ من هذا البزخ و الإسراف المبالغ فيه على أرض المعركة .. ، و ظل واقفا بفرسه خارج تلك القاعة التي قد تلمع لروعتها أعين الكثيرين من عشاق الدنيا ، و لكنها لم يكن لها أي وزن في عين سيدنا معاذ رضي الله عنه .. ، فجاءه غلام رومي ، و قال له :
(( أنا سأمسك لك دابتك .. ، و ادخل أنت لتجلس مع قادة الروم العظماء ))
.. فرفض سيدنا معاذ أن يسير على بسط الحرير ، وظل واقفا في الخارج ، و بدأ يخاطب قادة الروم من مكانه .. فقال لهم :
(( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقوم لأحد إلا لله في الصلاة و العبادة .. ، فليس قيامي هذا تعظيما لكم ، ولكنني أقف حتى لا أمشي على هذه البسط ، و لا أجلس على تلك النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم .. ، وقد نهي الله عن البغي و الإسراف .. ، و إني جالس هاهنا على الأرض مكاني ، و كلموني أنتم بحاجتكم ..، فأنا ها هنا مكاني )) ..!!
ذهل قادة الروم من هذا الكلام المفعم بالعزة و الإباء ، و تعجبوا من زهد ذلك الشاب المسلم .. فقد كان سيدنا معاذ بن جبل في الثلاثينات من عمره آنذاك .. ، وهو الذي لم ير مثل هذه الأبهة في حياته من قبل ... !!!
.. فكان أول ما سألوه : (( هل أنت أفضل أصحابك ؟!! ))
.. فرد معاذ .. بعد أن جلس متربعا خارج القاعة :
(( ليتني ألا أكون شرهم .. ، إن جيش المسلمين مليئ بالعظماء و الأتقياء ))
* فقالوا له .. عبر الترجمان .. :
(( أخبرونا .. ، ماذا تطلبون ؟!! ، و ما الذي جاء بكم إلى بلادنا ؟!!! ))
فرد سيدنا معاذ : (( جئنا لندعوكم إلى الإسلام .. ، أن تعبدوا الله وحده ، و تكسروا الصليب ، و تقتلوا الخنزير .. ، فإن فعلتم فأنتم منا و نحن منكم .. لكم مالنا ، و عليكم ما علينا .. ، و إن أبيتم فأدوا الجزية عن يد و أنتم صاغرون .. ، فإن أبيتم فليس شيئ مما خلق الله عز وجل نحن قابلوه منكم بعد ذلك .. ، و سنقاتلكم في سبيل الله ))
هكذا ينبغي أن يكون المفاوض المسلم ...
، فنحن نرى الآن نموذجا مشرفا يحتذى به إذا جلس المسلمون على مائدة المفاوضات مع أعدائهم في أي زمان ، و في أي بلد .. حيث :
* لا نستحيي من ديننا .. * و لا مداهنات في العقيدة .. * و لا تغيير للثوابت .. * و لا تضييع لحقوق المسلمين ... * و لا تنازلات على حساب الدين ....!!
... آسف لأنني أوجعت قلوبكم الطيبة .... !!!
(( ودوا لو تدهن فيدهنون )) ...
* فحاول سكلاريوس أن يرهب سيدنا معاذ بن جبل فقال له :
(( إن ملكنا .. هرقل العظيم .. حي ،وجنودنا كثيرة كنجوم السماء ، و كحصى الأرض .... ))
.. ، فرد عليه سيدنا معاذ قائلا :
(( أما قولكم : " إن ملكنا حي .. " ، فإن ملكنا هو الله عز وجل ، حي لا يموت .. ، و أما أميرنا فهو رجل منا .. إن عمِل فينا بكتاب ربنا ، و بسنة نبينا أقررناه علينا .. ، و إن عمِل بغير ذلك عزلناه عنا .. ، و إن سرق قطعنا يده .. ، و إن زنا رجمناه .. ، و إن جرح رجلا منا اقتص منه .. ، لا يحتجب عنا ، .. ، ولا يتكبر علينا .. ، ولا يستأثر علينا بشيئ ... ))
.. ، و أما قولكم : " جنودنا كثيرة كنجوم السماء و حصى الأرض " ... ، فوالله ، و إن كثرت جنودكم حتى تكون أكثر من نجوم السماء ، و أكثر من حصى الأرض ، فإننا لا نثق بالجنود ، و لا نتوكل عليها .. ،و لكننا نتوكل على الله عز وجل وحده .. ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ... ))
* قال له سكلاريوس :
(( قل لنا : كيف تستَحلون قتالنا ، و أنتم تؤمنون بنبينا و كتابنا ؟!! ))
** فرد عليه سيدنا معاذ :
(( نحن نؤمن بنبيكم ، و نشهد أنه عبد الله و رسوله ، و أن مثله عند الله كمثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، و لا نقول أنه الله ، و لا نقول : ثالث ثلاثة ، و لا نقول أن لله صاحبة ولا ولدا .. لا إله إلا الله .. تعالى الله عما تقولون علوا كبيرا .. ، ولو آمنتم بنبينا كما نؤمن بنبيكم عليه السلام لكنتم منا ونحن منكم .. نسالمكم ، و نقاتل معكم ، و ندفع عنكم عدوكم .... ))
* فبدأ سكلاريوس يعرض على معاذ بن جبل عرضه المغري مقابل أن ينسحب المسلمون من الشام .. قال له :