2022-08-30 22:04:30
أسقي هذه الليلة بماء عذب، مُنحدرٍ من جدول قلبي
مُضمَّخ بكل تنهيدة ابتدرتها وأنا في رحم والدتي، في حِجرها
في دِفء سريري..
في أول يوم في الصف
وعند اقتِنائي أول دفتر دوّنت عليه يومياتي العادية
الأقل من العادية حتى!
وأنا في البقالة، أبتاع "شوكولاتة وشيبس"!
وأنا عائدة من المدرسة..
وعند ركوبي على أرجوحة عالية جدًّا،
عالية عليّ، كنت صغيرة وقتها
سعيدة لأنني أحلّق
جاهلة بعواقب التأرجح على أراجيح من هم أكبر سنًّا
عندما سقطت منها، عندما تشوشت الأصوات في أذنيّ
واهتزّ الكون من حولي..
عندما رأيت الدم المُتناثر من أنفي فوق كومة المناديل
عندما وَضعتْ ابنة عمي الثلج على أرنبة أنفي، ليتوقف عن رشق الدم هنا وهناك!
هذه الحكاية سردتُها لكل شخص عرفته تقريبًا
لأني شعرت بأني قد أفلَتُّ يومها من الموت، يالي من محظوظة!
"ركبت المرجيحة العالية، ووقعت، غبت عن الوعي للحظات، وجرحت أنفي!
لكن ما مُتّ"!
الآن أتذكر كل نفس عميق حشرته في زوايا رئتيّ..
أتذكّر أول مشاعر دافئة، اندفعَت فيّ دون أن أعي ذلك
أول "أحبّك"
أول لقاء، أول صورة التقطناها سويًّا..
- كانت بشعة في الحقيقة! -
أول أغنية تشاركناها، أول سِر
أول مُكالمة
أول لمعة عين!
أول كل شيء..
وآخر كل هذه الأشياء!
عندما ركبت المواصلات العامة، لوحدي للمرة الأولى
عندما ترجّلت في المحطة الوسطى
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا، حيث لا أحد يريد العودة إلى البيت في هذا الوقت
وقت الإفطار غالبًا!
الموقف خالٍ
شرعت أبحث عن حافلة متجهة إلى" أم درمان "
عندما وجدتُ أمامي فجأة شابًّا، غمزني، ابتسم ابتسامة خبيثة، أمسكت بحقيبتي بقوة وأسرعت في المشي، يُسرع خلفي ويتكلّم، لم أفهم كلمة واحدة مما قاله!
كانت قدماي ترتعشان، وقلبي سمعت خفقانه، ظننت لوهلة أنها النهاية..
لم يستمر الأمر لبضع دقائق حتى ظهر رجلٌ متوسط السن، من حيث لا أدري، ووبّخ الشاب..
نظر ناحيتي واعتذر عن "طيش الشباب اليومين ديل"
"معليش يا بتي"!
مرّ على هذا الموقف وقتٌ ليس بالقليل، لكنني لا أزال أذكره جيّدًا..
كانت بدايات الشتاء
أذكرني وقد كنت مرتدية كنزتي البنفسجية
أذكر الرجل، أذكر ملامح وجهه المريحة، سحنته الداكنة، نظاراته الشمسية، سترة البرد السوداء..
ممتنة له لأنه كان هناك، في ذلك الوقت تحديدًا، هذا الغريب الذي لا أعلم عنه شيئًا، ولا حتى اسمه!
أتذكّر أول مرة أقِف فيها أمام المدرسة كلها - في الطابور - لأُلقي حكمة هزيلة مازالت تتلعثم في ذاكرتي إلى اليوم
"أن تأتي متأخرًا خير من أن لا تأتي أبدًا"!
لقنتني إياها صديقتي، لكن لم يسمعها أحد، كنت قد ضيّعت صوتي عندها - هذا طبيعي بالنسبة لشخص يعاني من رهاب اجتماعي -!
ولسوء حظهم وحسن حظي كان مكبّر الصوت لا يعمل!
إنها رغبتي من البداية، لم أكن أريد الوقوف هناك من الأساس، أجبرتني مشرفة الصف على ذلك!
كنت حاقدة عليها في بادئ الأمر لكن لا بأس، على كل حال لم يسمعني أحد، ولم أكترث لِكل تلك الـ "ما سامعين" التي قيلَت!
أشكر الله أنني لم أتحوّل إلى أضحوكة يومها..
كان من الأفضل لي أنا بالذات، في ذلك اليوم ألّا آتي أبدًا..!
أذكر أول قصيدة ركيكة كتبتها، كنتُ منهمكة في حل واجب مدرسي ممل عندما تدفقت الكلمات مني فجأة، إلى أن توقفت في الصفحة الثالثة، للأسف ضاعت تلك الأوراق مني، ولا أذكر من كلمات القصيدة شيئًا سوى أنها كانت بقلم الرصاص، وأنني أسميتها "فتاة"..!
أذكر أول قصة أكملتها، بدا جليًّا فيها مدى حبّي للأخضر، واسم يوسف، وحبّه لوالديه، وصديقته حمراء "الدعسوقة"
أذكر أبي عندما قرأها، عندما ابتسم، عندما نظر إلي بفخر لا أريد من هذه الدنيا سواه!
أذكر جولاتنا إلى البحر، أنا وأبي، يعلم أنني أتنفّس هناك، وأرمي كُل حمل ثقيل أرهَق كاهلي..
أذكر يد أمي "الطاعمة" السحرية، التي تُعد أشهى الأطباق، لن أتذوق أفضل من طعام أمي أراهن على ذلك..
أذكر..
شجار إخوتي، صراخهم الدائم
تذمّري، بكائي في "الحوش" تحت الشمس
دفء المنزل، رائحة البخور
مكتبتي، كُتبي التي لم أقرأها بعد!
دفتر الرسم، مذكراتي!
صندوق الأشياء القديمة، صندوق الرسائل
الوردة الذابلة، أدراجي المتخمة بالتفاصيل
تفاصيل تخصّني وحدي!
أظن بأني قد سقيت هذه الليلة بما فيه الكفاية
حتى امتلأت معدتها!
#عَـبير_بابِكر
23:30..
5 | jan | 2021!
58 views19:04