2022-06-18 13:04:04
كتب تحترق ٢/ ٣
أمّا هولوكوست الكتب فقد حدث مساء 10 من مايو 1933م، وبعد وصول هتلر للسُلطة بأربعة أشهر، ففي ساحة دار الأوبرا ببرلين تجمّع وفدٌ كبير من الطلبة الألمان، وكانوا يرتدون لباس اتّحاداتهم ويحملون المشاعل بأيديهم، وجُلبتْ لهم شاحنات الكتب التي عَدّها النّازيّون مُخالِفة لأيدولوجيّتهم، في تلك الليلة أَضرم الطَّلَبةُ النّيرانَ في أكثر من 25 ألف كتاب من الكتب المنهوبة والمحظورة في احتفالٍ كبيرٍ تضمّن الموسيقى الحيّة والغناء، كان من بينها أعمال كُتّاب ألمان مشهورين أمثال: هينريش مان، وماكس برود، وألبرت آينشتاين، وفريدرك إنجلز، وسيغموند فرويد، وكافكا، وعشرات آخَرين. ومن الكُتّاب غير الألمان أحرقوا كتبَ كثيرين مثل: فيكتور هوجو، وأندريه جيد، وآرنست همنغواي، وجاك لندن، وهيلين كيلر، وجيمس جويس، ودوستويفسكي، ومكسيم غوركي، وليو تولستوي، وليون تروتسكي،… وآخرين. وألقى الزّعيم النّازيّ (غوبلز) خطابًا مليئًا بالكراهية قبل أن يبدأ بنفسه إلقاء أول مجموعة من الكتب في النيران المشتعلة وهو يقول: «ها أنا أُلقي في النّار كُلّ ما هو غير ألمانيّ. ما نفعله هو التّصدّي للرّوح غير الألمانيّة».
أمّا في البوسنة فقد دكّ الصّربيون في 25 من أغسطس 1992م بقنابلهم الفوسفوريّة مدينة فيجكنيكا التي كانت تحتوي على مكتبة ضخمة ظلت تحترق لمدة ثلاثة أيّام كاملة، ورغم الخطر الكبير كان الناس يخرجون من بيوتهم للمُشاركة في درء المأساة دون جدوى، حيثُ تحوّلتْ أعمال الشُّعراء والنُّقّاد وكل ما كانت تحتويه المكتبة إلى غُبار هامد.
أمّا أفغانستان فقد ازدهرت فيها المكتبات خلال عقد السبعينيات، لكنّ مكتبة (كابول) التي كانت تضمّ (55) ألفَ كتابٍ دُمّرتْ بالكامل على يد التّنظيمات المُتشدّدة في عام 1996م.
وأمّا مكتبات العراق في أيّامنا هذه فقد تعرّضتْ بعد الاحتلال الأمريكيّ لها، وسقوط بغداد في أبريل 2003م، للنّهب والحرق والإبادة، فقد تمّ تدمير المكتبة الوطنيّة العراقيّة التي تأسّستْ عام 1961م في بغداد، وكانت تضمُ في الثمانينيات ما يقرب من نصف مليون مُجلّد، وعددًا كبيرًا من الدّوريّات والصّحف والكتب النّادرة، وقُدرت مقتنياتها عشيّة الغزو الأمريكي بمليونَي مطبوعة رقميّة، من بينها أكبر مجموعة في العالم من الصحف العربية.
لم يبقَ من المكتبة الوطنيّة العراقيّة بعدَ الغزو شيءٌ، مجرّد طبقة سميكة من الغبار تتراكم مع الحزن والأسى والشّجن الّذي حلّ بالبِلاد والعِباد، كما تعرّضتْ مكتبة الأوقاف الواقعة على بُعد (500) متر من المكتبة الوطنيّة للنَّهبِ والحَرْق في الوقت نفسه.
إنّه تاريخٌ طويلٌ من المأساة، وإنّه لا شيءَ يُفسّر ما يحدث غير نَهَمِ الإنسان – الّذي لا يشبع – للدّمار، وشَهوتِه للقتل، إنّني لا أستطيع أنْ أفهم كيفَ يُمكن أنْ يكون لمنظر الدّماء السّائلة أو النيران الملتهبة أو الكتب المُعدَمة هذه البهجة الكامنة في روحه الشّيطانيّة!!
ولقد يكون لحرق المكتبات من قِبل السّلطات العسكريّة أو الجيوش دافعٌ سياسيّ أو اقتِصاديّ، لكنّ السّؤال لماذا يتمّ حرق الكتب من قِبل مُؤلّفيها، ومَنْ أفنَوا السّاعات الطّوال في كتابتها، وسكبوا على أوراقها ذَوْبَ قلوبهم؟ لدينا مثال شهيرٌ في ذلك؛ إنّه أبو حيّان التّوحيديّ. كيفَ طاوعتْه نفسُه على إحراق كتبه؟! هل أصابَ عقلَه شيءٌ، أم أنّ لديه ما يفُسّر هذا العمل الغريب؟! هل حلّتْ به كآبة السّنوات الأخيرة من الحياة؟ هل آلمه قلّةُ اهتِمام النّاس بكتبه، أو عدم تقدير السّلطة لفكره وفلسفته؟ أم أنّ في الأمر غير هذا؟ لعلّ إحدى الإجابات الّتي لا نتوقّعها هي إجابته بنفسه عن ذلك حينَ كتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعذله على صنيعه، ويُعرّفه قُبحَ ما اعتمد من الفعل وشنيعه. فكتب إليه أبو حيّان يعتذر من ذلك: «حَرَسَكَ الله أيّها الشّيخ من سُوء ظنّي بمودّتك وطُول جفائِك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعًا مِمّا سُوِّدَ وَجْهُ عهدٍ إنْ رعيناه كُنّا مُستأنِسين به، وإن أهملْناه كُنّا مُستوحِشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك. وافاني كتابُكَ غيرَ مُحتسَبٍ ولا مُتوقَّعٍ على ظمأ بَرَّحَ بي إليه، وشكرتُ الله تعالى على النِّعمة به عَلَيّ، وسألتُه المزيد من أمثاله، الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إلي، والصبابة نحوي ما نال قلبَكَ والتهبَ في صدرك من الخبر الذي نَمَا إليك فيما كان منّي من إحراق كُتُبي النّفيسةِ بالنّار وغَسْلِها بالماء.
#أيمن_العتوم
25 viewsMaha Sy Ria , 10:04