Get Mystery Box with random crypto!

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه وقفة مع الخطاب الت | الراسخون في العلم

الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه

وقفة مع الخطاب التربوي الاستجدائي (ابني.. بنتي.. لن نفهمكم ولن تفهمونا! ولكن..)

أرى أن هناك طرحا تربويا بات يتكرر ويحتاج لتفكير ونقد، خلاصته توجيه رسائل للأبناء بأنهم في زمن مختلف وأن الآباء لا يفهمونهم وهم لا يفهمون الآباء، ثم بعد تأسيس هذه المقدمة يتم وضع بعض التوجيهات بأسلوب (ولكن..) وكأنه استجداء لهذا الجيل بأن يسمع قليلا رغم كل هذا الاختلاف في الزمن والظروف والفهم!

لنفكر، الإنسان فطريا وجسديا هو الإنسان، وعقله وقدراته على الفهم لا تتغير! ما هو اختلاف الزمن؟ أيام تمر ولا زالت تمر منذ خلق الله أبانا آدم(عليه السلام) ! هذه العوامل لا يمكن أن تمثل اختلافا حقيقيا

الظروف؟ لكل زمان ظروفه ولا زالت الأزمنة تتغير؟ ما الداعي إذا لهذه النظرة الفريدة لزماننا هذا؟

الذي يتغير فعلا هو أن الشر الذي لا يزال يصاول الخير في كل زمان تزايدت وسائله، وتبهرج وتبختر وتظاهر بأنه حقيقة حتمية يصير لها الزمن لا محالة، ولا فائدة من مقاومته، وكل من يحاول ذلك فهو يعيش خارج اللحظة ويحبس نفسه في الماضي!

هي إيديولوجيا تعشعش في البواطن، خلاصتها نظرة كلية للوجود الإنساني بأنه وجود يتطور مع الزمن للأحسن، وتستصحب دوما نظرة دونية لإنسان الماضي، وكأنه كائن أقل تطورا بالضرورة، وكأن البشرية في تطور حتمي كل ما مر الزمن، وكل ما يقدم لها من منتجات هو تطوير للأفضل لا محالة!

وهكذا الإيديولوجيا، رؤية كلية تحاول إدخال كل شيء في إطارها التفسيري بصورة مطلقة، مع شيطنة كل من يخالفها، وبهذا تفرض سيطرة مطلقة على العقول، وتسوق الجماهير، وتتسلط على الأفكار بسطوة سلطوية لا بقوة فكرية حقيقية

إذا فكرت بهذه الطريقة وأعدت قراءة المشهد، فستبدأ في التروي وترتيب قطع الأفكار من جديد، وستتمكن من التقاط أنفاسك مع خفة رهبة هذا التسلط الفكري، وتستعيد جرأتك على مسائلة أسسه والتشكيك في إطلاقه، ثم الصمود أمام طغيانه.

إن النظام الفكري الذي يحق له أن يفسر لنا وجودنا ويرتب لنا أهدافنا ويضع لنا منهجنا في حياتنا بصورة مرجعية مطلقة، لا بد أن يستند إلى العلم المطلق، وحكم من له القوة والملك والهمينة المطلقة، وله العبودية والخضوع والطاعة، رب العالمين، الحي القيوم الذي له الخلق والأمر، الرب العزيز الذي لا يوصل إليه بنقص، هنا تخضع القلوب وتسجد الجباه وتستلهم العقول المرجعيات دون منازعة، ولا شريك له في ذلك سبحانه.

إذا فلا مجال لهذا الاستجداء، ولا لغرس هذه الفجوة الفكرية والعقلية بين الأجيال، فالرب واحد، والحق واحد، والغاية واحدة، والمنهج واحد..

نعم تختلف التحديات وتتزايد الضغوط وتنتشر الشهوات والشبهات، لكن هذه الأمور لا تغير الحقائق بل تستدعي أن تزيد صلابتها، هي حرب تقابل بالتخندق والتزود والصلابة، وقد تستدعي مرونة وتحيزا، لكن في حدود الشرع نفسه، وضمن نظامه التشريعي الحاكم في كل الظروف والأحوال، وضمن فهم للفرق بين الوسائل والمقاصد، ومحال تأثير اختلاف الواقع، ومحال مقاومة ذلك الاختلاف والصمود أمامه، ورفض طغيانه بالمستطاع.

نعم يحتاج الجيل لحكمة وجهد أكثر في الاحتواء، وحجم التحدي يفوق قدرة الآباء في كثير من الأحيان، وهذا ابتلاء يستدعي الصبر والمجاهدة، لا الانهزام وحل المشكلة بمشكلة أكبر، بحيث نغرس في الجيل حتمية وهمية لن تساعده على نقد الانحراف بل ستسهل له قبوله والتعايش معه.

يجب أن يكون خطابنا التربوي واضحا في بيان الحقائق الكبرى، البشرية اليوم يراد لها أن تنحدر في مستنقع الشهوات وأن تقبل عدمية الرؤية الإلحادية وتستدبر الفطرة، وتتقدم في التفاهات بينما يعيش أكثر البشر في الفقر والظلم وتراجع في أساسيات الحياة البشرية.. سردية التقدم وتغير الزمن للأحسن باستدبار الدين مجرد وهم إعلامي كبير وإيدولوجية هشة مهما تبهرجت، والحق لا يُغلب..

والحديث أكبر من هذا المقال وكاتبه، لكن ما قيل يجب أن يقال، والميسور لا يسقط بالمعسور، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

د. طارق العنقاوي