Get Mystery Box with random crypto!

لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني، فهو فوق ما يحتمل المتحمل و | عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي

لا أستطيع أن أعزيك عن مصابك يا بني، فهو فوق ما يحتمل المتحمل ويطيق الجَلْدُ الصبور، ولو أنني حاولت ذلك منك لكذبتك وغششتك، ولكان شأني معك شأن أولئك الهازلين العابثين الخادعين من المعزين الذين يختلفون ليلهم ونهارهم إلى منازل المنكوبين والمرزوئين ليقولوا للثاكل ولده: «لقد قدمت بين يديك شفيعًا يشفع لك يوم حسابك بين يدي ربك.» وللباكي أباه: «ما مات من خلف مثلك.» وللباكي أخاه: «إنَّ في الباقي عزاءً عن الماضي.» وللباكية زوجها: «الشباب غض والرجال كثير.» وللفاقد بصره: «حسبك مما فقدت من نور بصرك ما أبقى الله لك من نور بصيرتك.» وللمحتضر المشرف: «إنَّ في لقاء ربك عوضًا عن لقاء الدنيا.» ولمن حلت به نكبةٌ مثل نكبتك: «لقد كفاك الله بما ابتلاك سماع أقوال الكذب وكلمات السوء.» كأنما هم يحسبون أنَّ الفواجع والرزايا صفقات تجارية إذا قاس فيها المرء ربحه بخسرانه ووازن بين دخله وخرجه هان عليه هذا لذاك، واغتفر ما فات لما هو آتٍ، ولا يعلمون أنَّ الحزن على الذاهب المفقود إنما هو زفرةٌ من زفرات الحب، أو نفثة من نفثات الوفاء، ولا دخل للحساب والمعاوضة في شيء من ذلك، وأن أقسى الآباء قلبًا وأصلبهم فؤادًا لو ساومه مساومٌ في فلذة كبده ووضع تحت قدميه خزائن الأرض والسماء لكان رأيه في ذلك رأي ابن الرومي في قوله:
وما سرني أن بعته بثوابه
ولو أنه التخليد في جنة الخلد
وأنَّ الأم تبكي وحيدها كما تبكي عاشر عشرةٍ من أولادها، والصديق يبكي فراق صديقه وإن كثر أصدقاؤه في كل محلةٍ يحل بها، والزوجة تبكي زوجها وإن كان تحت كل نافذةٍ من نوافذ منزلها خطيبٌ يترقبها، وأنَّ البائس المسكين الذي يعيش من دنياه في مثل جحر الضب ضنكًا وبؤسًا يضن بحياته الضن كله إذا أحس بوشك فراقها وإن علم أنه سينتقل منها إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض. فهم في الحقيقة يسخرون من مصائب الناس وأرزائهم، ويؤلمون نفوسهم فوق ألمها باحتقار أحزانهم وازدرائها وتصغير شأنها في أعينهم، ويلقون في نفوسهم اليأس من أن يجدوا بجانب قلوبهم قلوبًا تحس بإحساسها، وتشعر بشعورها، من حيث يظنون أنهم يخففون عنهم آلامهم ويأخذونهم بنسيانها.
#الزهرة_الذابلة
#النظرات
#المنفلوطي