Get Mystery Box with random crypto!

يالها من كلمات تأزّني أزّا لله در قائلها محمود محمد شاكر: ____ | عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي

يالها من كلمات تأزّني أزّا لله در قائلها محمود محمد شاكر:
____________

ومنذ سمعت الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفت على كلمة في هذا الشعر لا أزال اعجب لها وهي: (أبكار الهموم وعونه) (أبكار الهموم)! يالها من كلمة عبقرية! أن مزية هؤلاء الأعراب البداة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقض على اللغة فتنفضها نفضاً وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبئون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبا هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في (أبكار)، ودل بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب،، وعرقت لحمة بالهزال، وصيرت إنساناً منكراً في عين من يحب.

فهذا الأعرابي الجريء، والمحب المزدري، الساخر المستخف عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمراً غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فانه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهم، وأن له من حاجات نفسه وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها، فهو راض بها وبما يلقي في سبيلها من ارق وسهاد. وأراد أن يعلمها انه لا يأسى على ما فاته من بكر ولا عوان، فإن للنفس الشاعرة هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحب في العذراء الحيية العصية من فتنة وجمال ونظرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طلابها شقاءً لذيذاً له في القلب نشوة أو سعار. وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغير منها الأيام شيئاً، ولا تنيل الطالب المحب إلا متاع الجب المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتدي بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبداً أبكاراً.

وللنفس أيضاً هموما (عون) قد أصاب الناس منها أصابوا، ولكن بقيت منها للنفوس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان، ونبل في الخضوع والتسلم عند العجز، فهي تداور صاحبها وتحاور حتى تشقيه شقاء لذيذا ثم تنيله ما يشاء حتى يرضى.

ولقد عجبت للشيخ يومئذ وهو يكرر: (لم تؤرقه ليلة، - وانعم - أبكار الهموم وعونها) فقد كان في صوته ما جعلني أنسى أني لم أزل واقفاً أنصت لدبيب هذه الحياة في جو الغرفة، ثم خرجت من عنده ولا يزال صدى صوته يردد في نفسي تلك الكلمات المصورة المبدعة: (أبكار الهموم وعونها).
#محمود_شاكر