2022-07-31 16:40:17
ومن أغرب مصائب هذا الزمان وبلاياه أنَّ أقواما يفتخرون بالرذيلة ويتبجَّحون بالدعارة، ويتنافسون في الموضات وكشف العورات وشرِّ السهرات، حتى انسلخوا من الفضيلة ومرَقوا من العفة، وألِفوا النتْنَ واستحسنوا الخُبْثَ، ورمَوْا الأعِفّاء بالجهل والتخلُّف، واتَّهموهم بالغلوّ والتطرُّف، فالعفةُ عندهم جريمةٌ يُعاقَب عليها وعيبٌ يُسخَر منه.
ولكلِّ قوم وارثٌ، فقد افتخر قوم لوط ﷺ بفاحشة اللواط، وسخروا منه ومن آله لكونهم يتطهرون منها، قال عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُون﴾ [الأعراف:82]، يتطهَّرون أي: يتنزَّهون عن مجالستهم ومشاركتهم في فَعْلتهم النَّكراء.
فالعَجبُ كيف تصير العفَّةُ والتطهُّرُ منكرا والرذيلة والفاحشة معروفا، لكن من غَرِق في الخَلاعة والإِسفاف استثقل الطَّهارة والعَفاف، ومصاحبةُ الأشرار تُورِث سوءَ الظنِّ بالأخيار.
إنّ العفة علامةُ الرجولة والمروءة وآيةُ الشرف والسيادة، وهي تاجٌ على رؤوس الأخيار، وزينةٌ لقلوب الأطهار، ويكفيهم شرفًا وفخرًا أن ربَّهم يحبُّهم، ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين﴾ [البقرة:222].
وقد كان العقلاءُ من بني آدم ـ ولا يزالون ـ يفتخرون بها ويحمدون الله عليها، قال ابن الجوزي في كتابه «ذم الهوى» (176) «الباب الواحد والثلاثون: في الافتخار بالعفاف» ثم روى بسنده آثارًا كثيرة تدل عليه.
من ذلك لمَّا قُطعت رِجْلُ عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ نظر إليها وقال الحمد لله، أمَا والذي حملني عليكِ إنه ليَعْلم أني ما مَشِيت بكِ إلى حرام قطُّ، وقال أبو يوسف في مرضه الذي مات فيه: «اللهم إنك تعلم أني لم أطأ فرْجا حراما قطُّ، وأنا أعلم، اللهم إنك تعلم أني لم آكل درهما حراما قط، وأنا أعلم»، وقال إبراهيم بن أبي بكر بن عياش: «شهدت أبي عند الموت فبكيت، فقال: يا بُنيَّ ما يبكيك؟ فما أتى أبوك فاحشة قطُّ».
يتحدثون ـ وهم على فراش الموت ـ بنعمة الله عليهم، وهي كونهم عاشوا أطهارًا أعِفَّاءَ طَوالَ حياتهم.
وأنشد بعضهم:
مَنْ كَانَ مُلْتَمِسا جَليسا صَالِحا//فَلْـيَأْتِ حَـلْقَةَ مِـــسْعَرِ بــنِ كِـدَامِ
فِيها السَّكِيـــنَةُ وَالوَقَــارُ وَأَهْلُــهَا//أَهْـلُ العَفَافِ وَعِلْيَةُ الأَقْوَامِ(5)
فالنُّزهاءُ الأعِفاء هم السادة المطاعون عند أهل الرشد والنُّبل، بخلاف أهل الطمع والأَثَرة والفجور والخيانة، روى البيهقي في «الشعب» (10397) عن أَبي عَمْرِو بن الْعَلَاءِ أنَّه قال: «كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لا يُسَوِّدُونَ إِلا مَنْ كَانَتْ فِيهِ سِتُّ خِصَال: السَّخَاءُ وَالجِدَةُ وَالْحِلْمُ، وَالصَّبْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَالتَّأَنِّي، تَمَامُهُنَّ في الإِسْلامِ العَفَافُ».
ولهذا كان من أخلاق القاضي والحاكم والعالِم في الإسلام العفةُ والترفعُ عن الأطماع والتنزهُ عن الرذائل، فالطمعُ يُذهِب بهجةَ الحقِّ والعلم، والشرُّ يُخفي رونقَ الصوابِ والفهم.
قال عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيز ـ رحمه الله ـ: «خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ القَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ أَنْ يَكُونَ فَهِمًا حَلِيمًا عَفِيفًا صَلِيبًا عَالِمًا، سَؤُولاً عَنِ الْعِلْم» علقه البخاري ووصله ابن سعد (5/369)، قال ابن حجر (13/149): «عَفِيفًا أَيْ يَعِفُّ عَنِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ إِذا كَانَ عَالِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَفِيفًا كَانَ ضَرَرُهُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ الْجَاهِلِ»، وقال الإبراهيمي (4/ 117): «وواجبُه ـ أي: العالم ـ أن يطهّر نفسه من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء وتملّقهم، طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم فإذا خسرها فقد خسر كلَّ شيء، وخلفها الطمع فأَرْدَاه».
ويتعين كذلك على من كان أميرا أو مسؤولا أو ناظرا لوقفٍ أو وصِيًّا على مالِ يتيم أن يتَّقيَ اللهَ ربَّه ولا يأخذَ إلا رزقَه ولا يأكلَ إلاَّ بالمعروف، حفاظًا على مال الأمة وصيانةً لمال اليتامى، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء:6].
هذه الآيةُ الكريمةُ نزلت في وليِّ اليتيم القائم عليه، فإذا كان غنيًّا استعفف عن الأكل أي: تنزَّه عنه، وإذا كان محتاجًا فله أن يأكل بالمعروف، أي: بقدر حاجته وبما جرت به العادة، واختلف الفقهاء هل يرُدُّ إذا أيسر، على قولين(6).
200 views13:40