2021-01-11 13:54:50
إلى العزيز جدا _ و إن قل الوصال _ طارق المغربي ، بقبره بالجنوب ... يجدك بخير ...
تتردد في ذاكرتي حين ضيق ، فتاة شقراء تغني " في يوم همست في أذني ، من يمسح عن قلبي حزني .. يرجعني خضراء اللون .. اعشاشا للأطيار ؟ " ...
بدايات يناير .. ليل شتاء لا شتاء فيه سوى الظلام الذي يحل مبكرا و الطرقات الخاوية إلا من خوف قليل ... صوت اقامة صلاة العشاء يعلو من مكبرات المسجد ، اتذكره ؟ منذ سنوات اعشق مئذنة مسجد الحي و اتأملها و بي يقين أني سأفتقدها حين اهاجر .. لا ادري إلى أين الهجرة لكننا _ كما أنت _ نهرب من سجون الحياة إلى مدن اخرى تألفنا و نألف أهلها و نقيم فيها متناسين ما مضى من عمر ...
الخرطوم ليست بخير إن كانت تهمك احوالها ، مازال السؤال عالقا بين صفوف الخبز و الوقود "متين تضحك سماء الخرطوم حبيبتنا و متين تشفى؟" ... لا اخرج من المنزل ، في الحقيقة اكاد لا اخرج من الغرفة ، لكني حين أفعل ، أعود أحمل ملامح الشوارع المشحونة و اختفي في غرفتي عدة اسابيع لأعيد الكرة مجددا و هكذا ... اظن أن من يخرج الى شوارع الخرطوم كل يوم و يحتمل ما بها من وهن يجب أن يكون بطلا ، كيف له أن يحتمل كل هذه الحماقات إن لم يكن!
و أنا لست بخير .. لا حزينة و لا سعيدة ، و لكنه التعب الذي يجعلك تنام و تستيقظ منتصف الليل تبحث عن شيء ما في الهاتف ، في الحياة ، في قلبك و لا تجده .. شيء لا تعرف ماهيته لكن ... ربما احساس متفاقم بالفقد ، ربما افتقد نفسي منذ بضعة اعوام ... أن أحلم و اكتب و التقي الاصدقاء و نغني و تألف ازعاجنا طرقات الجامعة ... أن أحب فأكتب و احزن فأكتب و افرح فأكتب و أكتب ... أن أكتب لأوثق سعادتي في الحروف ، في الوقت الذي يرسم فيه الحزن ملامحه على شخصيتي بقلة الحديث و الانطفاء و ابتهالات مع كل صوت يخرج من مكبرات المسجد أن ينتهي كل شيء و يعم السلام العالم ...
العالم يا طارق ما أنا فيه .. العالم هو اليوم الذي يبدأ بنكران شديد أنني استيقظت و ما زالت الحياة مستمرة و يجب أن امارسها كما ينبغي وألا اتمرد و لا اصدر ضجيجا و لا أعبس و لا أرفض و لا انزعج ... العالم هو اليوم الذي ينتهي بالصلوات أن يصبح يوم غد افضل و أن يجبرنا الله او أن ينتهي كل شيء و أغلق الهاتف للمرة الأخيرة ، اغلق الباب للمرة الأخيرة ، ينطفئ العالم للمرة الأخيرة ، و أنام _ للمرة الاولى _ إلى الأبد و يعم السلام ...
لكنه ، و حتى كتابة هذه الاسطر لم يحدث ، لذا ما زلت اتحايل على كل هذا العبث و أهرب إليك و إلي حين كنت خضراء اللون ، اعشاشا للأطيار ...
افتقدك ... ربما تكون الخرطوم بخير لو زرتها قريبا ... ربما كل شيء يصبح بخير لو جلسنا معا في مدخل مكتبة المين ، أقص عليك ما فات ، عن نصوص ميراميتا العذبة و صوتها حين تقرأ ... عن مرام و صديقاتنا اللواتي لم نلتق بهن منذ زمن و اغنيات لطيفة تطمئننا أننا لم ينل منا النسيان .... عن دعاء تسافر إلى اماكن جديدة لتضيء بقعة اخرى مظلمة من العالم ، دعاء نور حيثما حلت ... عن مئاب تبهرني بقوتها و تصغر الابتلاءات عندما تحادثني ... عن اسراء و فوضى الشوارع .. عن فردوس تبعث فينا الأمل ما استطاعت و يبتهج القلب ... عن نوافل عروسنا المرتقبة و تفاصيل نكاد نسقطها سهوا في زحمة الايام ... عن صديقتاي حبيبتا قلبي البعيدتان أحمل حزن احداهن في قلبي و اشكو للاخرى ، نبكي جميعا ذات الفقد و يؤلمني حديثها حين مواساة " ياريتكم كنتوا معاي " فأرد " كنا بكينا سوا" ...
أطال حديثي ؟ أكتب إليك من ليلة البارحة ... يبرد شاي الصباح ، تبرد الاحاسيس في قلبي و يزداد الصداع ... عزائي أنني في كل مرة أكون على يقين أن ما بعدها سيكون أفضل _و لم أخذل قط _ و يحدث ... لكنه الألم لا عزاء له ...
أفتقدك و سارة ... يبدو أنني تعلمت الدرس ، كل ما في الحياة من سلوى لا يعزي فاقدا عمّن فقد ... سأرسل إليك قريبا حين تتحسن الأيام و تصفو سماء الخرطوم و ينجلي الهم ... ربما لا نضطر أن نقتات على الكفاف مع الكثير من الصبر ...
إلى أن يحين ذلك الوقت ، امتن للاحزان التي تقربنا للسماء ، استشعر لطف الله في محبة اطفال الحي و نصوص قديمة و أغاني اسبيستون و رغبة مفاجئة في سماع اوبريت الحلم العربي ... في كل مرحلة عمرية كانت هناك دوافع او قضايا صغيرة اسعى إليها ... الٱن أنا فارغة من كل شيء ، تتكدس الكتب في الدولاب منذ عدة اعوام ، تزداد عدد المحاضرات التي يجب أن اتعلم منها ، تتعالى اصوات الاشعارات من الهاتف و لا رغبة لي الرد ... أتجنب الحديث فاسمع والداي يتهامسان ... تخبرني أمي أن "افردي ضهرك عجزتي " ، أرد أنني موقنة لن أعيش أكثر من ثلاثين عاما قدراتي لا تسمح فلا بأس انا اشيخ مبكرا ... منذ اشهر اكتشفت صغيرات العائلة مزيدا من الشعر الابيض في رأسي حين كنّ يمشطن لي ، علت صوت احداهن تنادي اخواتها لتريهم ... ابتسم ، تكف التروس عن الدوران في عقلي ، يخف الصداع ، أطلق الطائر الذي في صدري فيخمد القلق ... يقل العشم و يعم السلام ...
229 views10:54