هذا الدرس الواحد والأربعون بعد المائة الأولى في سيرته صلى الله عليه وسلم.
في رجوعه صلى الله عليه وسلم من ذات الرقاع وقعت قصة فيها فوائد عظيمة ولمحات ينبغي على المسلم أن يتأملها. لذلك جعلنا هذا الدرس حول هذه القصة؛ وهي قصة جمل جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وجابر بن عبد الله هو ابن عبد الله ابن حرام الأنصاري رضي الله عنه الذي قتل شهيدا في معركة أحد، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر عنه: "إن الله قد كلم أباك كفاحا".(1)
وجابر رضي الله عنه لم يشهد أحدا، لأن أباه كان يمنعه. وذلك لأنه لم يرزق بولد بصبي إلا بجابر، والبقية فتيات. فكان يقول: أخرج أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تبقى عند أخواتك.
في ليلة أحد، رأى رؤيا، فقال لجابر: يا بني لا أراني إلا مقتولاً يوم أحد، وإني ما تركت بعدي أحب إلي منك سوى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أوصاه بأخواته خيرا. وكن سبع نسوة. وجاء في رواية أنهن تسع. وقد جمع الحافظ ابن حجر بينها أن اثنتين متزوجتان وأن السبع البواقي في بيت جابر. فكان يهتم بهن. ولذلك تزوج بامرأة ثيب لترعى شؤونهن وتجمعهن -كما سيأتي معنا-.
يقول جابر: أخرني جملي.. -كان معه جمل لما عادوا من ذات الرقاع- فكان الناس يمرون بي وجملي يتأخر، حتى بلغني النبي صلى الله عليه وسلم.. كيف بلغه؟ النبي صلى الله عليه وسلم كان دائما يكون في آخر الناس، ويقول: "دعوا ظهري للملائكة". فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم، رأى جابرا فقال: ما لك يا جابر؟ قال: جملي يا رسول الله قد أعيى.
فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، وقال لجابر: أنخ جملك. ثم أخذ منه عصا أو قال أتى بعصا، ثم نخسه بهذه العصا مرة أو مرتين، وجاء أته ضربه، فقام الجمل.. يقول جابر: فوالله لقد كنت أجر خطامه حتى لا يسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم. -وهذا من بركته صلى الله عليه وسلم- عوفي الجمل وذهب ما به وصار نشيطا حتى كاد يسبق ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بعد ذلك تحدثا، فقال صلى الله عليه وسلم لجابر: "يا جابر بعني جملك". يقول جابر: ولم يكن لنا ناضح غيره -أي يسقي زرعه يأتي بالماء هذا الجمل، ثم يسقي بستانهم أو شجرهم-. فاستحيى جابر من النبي صلى الله عليه وسلم قال: بل أهبك إياه يا رسول الله. وانظروا الى خلقه وأدبه صلوات الله وسلامه عليه قال: لا بل بعنيه.
المرء أيها الإخوة، لا يتخذ منصبه أو مكانته عند أحد فيأخذ منه بسيف الحياء. فهنا يربينا صلى الله عليه وسلم. فقال لجابر: "بل بعنيه، غفر الله لك". يقول جابر: استغفر لي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمل في هذه القصة خمسة وعشرين مرة. يقول: فقلت: يا رسول الله سمني. -قل: بكم-، قال: بدرهم. قال: فقلت له: لا. قال: بدرهمين. فقلت: لا.
انظروا، سبحان الله، هذا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يسوم جابرا الجمل قيمته، وجابر يرد عليه فيقول: لا، حتى وصل النبي صلى الله عليه وسلم في القيمة بأوقية من ذهب. قال جابر: وكان على أبي دين لرجل أوقية، فقبلت البيع وبعته. وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: لك ظهره حتى نصل إلى المدينة. -أي تستفيد منه وتركبه ويوصلك إلى المدينة-.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت يا جابر؟ قال: نعم. قال: أثيبا أم بكرا؟ قلت: ثيبا يا رسول الله. قال: هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك. قال: فقلت: يا رسول الله، -وانظروا إلى العقل ولماذا تزوج بثيب- قال: إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا -كما قلنا هن اللواتي بقين معه جمعا بينها وبين من قال إنهن تسع-. قال: فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن فتقوم عليهن. فقال صلى الله عليه وسلم: أصبت إن شاء الله.
ثم بعد ذلك وصلا إلى المدينة، فذهب جابر بالجمل فأناخه عند باب المسجد. -لأنه انتهى الشرط؛ وهو أن يوصله إلى المدينة-، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لمن هذا الجمل؟ قالوا: هذا لجابر. قال: ادعوه لي. وكان جابر في المسجد، فجاؤوه فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما رآني قال: يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك. -وكان قبل ذلك قد اشتراه-. وجابر أراد بقيمته أن يقضي دين والده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك. ثم دعا بلالا، فقال: اذهب بجابر فأعطه أوقية. سبحان الله، أعطاه قيمة الجمل ورده إليه.(2)
يتبع..
-------- (1) صحيح الترمذي، 3010. (2) صحيح البخاري 1955، وصحيح مسلم 2998.
