هذا الدرس الثاني والخمسون بعد المئة الأولى في سيرته صلى الله عليه وسلم.
قبل أن ينزل اليهود على حكم سعد بن معاذ.. وهذا أيها الإخوة من المواطن التي ينبغي أن يتأمل فيها الإنسان؛ وهي أن سيدهم وصاحب عقدهم واسمه -كما سبق معنا- كعب بن أسد، قال لليهود بعد أن جمعهم: يا معشر يهود، إني أعرض عليكم واحدة من ثلاث.. فها أنتم ترون جيوش محمد ومن معه تحيط بنا. قالوا: قل. فقال لهم: أن نؤمن به؛ فإني وأنتم نعلم أنه النبي الذي أخبرنا عنه؛ فنأمن على أنفسنا وأموالنا وأهلنا. فقال اليهود: لا والله لا ندع اليهودية لأي دين. قال: إذن -الخيار الثاني-؛ أن نقتل أولادنا ونساءنا حتى لا يغنمهم محمد وأصحابه، ثم نخرج إليهم فنقاتلهم. فإن نحن انتصرنا كان لنا بدل النساء نساء وبدل الأولاد أولاد.. وإن نحن هزمنا، لم نخف على أولادنا ونسائنا. قالوا: أتأمرنا أن نقتل نساءنا وأولادنا؟ قال: إذن فالثالثة؛ الليلة ليلة السبت، وإن المسلمين يعلمون أنا نعظمها ولا نقاتل فيها.. فنخرج إليهم وقد أمنوا القتال.. -أي يكونون غير مستعدين- فنقاتلهم. فقال اليهود له.. -لا حول ولا قوة إلا بالله؛ حينما يبتلي الله العبد، فلا يدري أين الصواب، ولو حكم بعقله أو بألف عقل-.. قالوا: أنفسد يوم السبت وأنت تعلم ما صنع الله بمن أفسده؟ وكيف جعلهم قردة وخنازير؟ فلم يقبلوا لا بهذه ولا بهذه ولا بهذه..
فلما رأى الرجل ذلك، وقد عرض عليهم ما عرض فلم يقبلوا. قال لهم: والله ما أنتم بأصحاب رأي؛ وإنكم تساقون إلى قدركم. -أو كما قال-.(1)
ثم بعد ذلك، نزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر بما أمر.. أخذوا إلى المدينة.. ثم بعد ذلك فصل الأطفال والنساء..
لم يقتل من النساء أيها الإخوة، إلا امرأة واحدة. وهذه المرأة اسمها نباتة..وانظروا كيف يجر بعض الرأي على صاحبه:
نباتة هذه كان لها زوج يحبها وهي تحبه. وكانا قد جلسا على حصن من حصونهم أيام حصار المسلمين لهم. فقال زوجها لها: يا نباتة إني أخشى إن انتصر محمد ومن معه علينا أن يأخذك غيري. فهذه المرأة اليهودية تريد أن تبدي له الإخلاص، وأنها معه في الحياة والموت. قالت: فما أصنع حتى أكون معك في الحياة والموت؟
قال: اقتلي واحدا من المسلمين. فأخذت رحى -هذا الذي يطحن فيه الحب-، ورمته على مجموعة من المسلمين من أعلى الحصن. فوقعت على خلاد بن سويد رضي الله عنه فمات؛ أصابته هذه الرحى على رأسه فمات.. فهنا يأتي القصاص؛ وإلا فالنساء لا تقتل.
تقول أم المؤمنين عائشة: كانت عندي نباتة هذه يوم كان بنو قريظة يقتلون.. شقت لهم الأخاديد ومن أنبت منهم -أي بلغ- قتل. قالت: وهي معي منشرحة النفس تضحك. وبينما نحن كذلك إذ نادوا عليها، فقلت لها: ما بالك؟ لماذا ينادون باسمك؟ قالت: ينادونني ليقتلوني بأحد أصحاب محمد فإني قد قتلته. وخرجت. قالت: فعجبت من طيب نفسها وعدم خوفها وحديثها وهي تعلم أنها تذهب لتقتل.(2) واجتمعت وهذا اليهودي في ما أرادا من الموت على الكفر وعلى اليهودية. نسأل الله أن يختم لنا بخير.
عمرو بن سعدى هذا يهودي -كما سبق معنا- لم يدخل في نقض العهد. فخرج من عند أصحابه في الحصن، فواجه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وكان محمد في تلك الليلة هو رئيس الحرس، فقال محمد بن مسلمة: من؟ فقال: عمرو بن سعدى. فقال محمد بن مسلمة: اللهم لا تحرمني من إقالة عثرات الكرام. امض، فمضى عمرو بن سعدى، وأمن على نفسه وماله. أخذ ماله وخرج ولم يعترضه أحد من الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل نجاه وفاءه. لأنه أبى حين قطعوا العهد ونقضوه.. ذكرهم، وقال: إنكم ما رأيتم من محمد إلا خيرا، فعلام تنقضون ما بينكم وبينه!؟ فأبوا عليه..(3)
كعب بن أسد وحيي بن أخطب وغيرهم أخذوا.. فلما جاء حيي بن أخطب ليقتل، نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذله. وكان عليه حلة قد شقها من كل جانب حتى لا يسلبها. ثم أقبل على الناس، ثم قال: لا بأس بأمر الله؛ فإنما هي ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. وضربت عنقه.(4)
يتبع...
------------ (1) السيرة النبوية، ابن هشام، 2/236-237. (2) السيرة النبوية، ابن هشام، 2/242. (3) السيرة النبوية، ابن هشام، 2/239. (4) السيرة النبوية، ابن هشام، 2/241.
