هذا الدرس الثالث والخمسون بعد المئة الأولى في سيرته صلى الله عليه وسلم.
كان ما كان -كما ذكرنا- من حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه في بني قريظة حلفائه قبل الإسلام. ووافق حكمه حكم الله جل وعلا.
ثم إنه عاد إلى الخيمة التي وضعها له النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد. وانفتق جرحه مرة أخرى، فسال حتى دخل على خيمة لبني غفار بجواره، فنادى بنو غفار وقالوا: يا أهل الخيمة ما هذه الدماء التي تصلنا من عندكم؟
وكان سعد رضي الله عنه قد استجاب الله دعوته؛ فإنه بعد معركة الأحزاب قال: اللهم لا تمتني حتى تشفي نفسي من بني قريظة.. ثم لما حكم في بني قريظة بما حكم به الله جل وعلا، دعا رضي الله عنه وأرضاه، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ما من أحد أحب إلي جهاده من قوم أخرجوا نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم فإن كان بقي قتال لنبيك مع قريش فأبقني، وإلا فاقبضني إليك. فانفجر جرحه رضي الله عنه وأرضاه. ثم فاضت نفسه وروحه إلى الله جل وعلا.(1)
وسعد هذا سبق معنا أنه أسلم على يد مصعب بن عمير.. وهو السيد الكبير الشهيد كما قال الإمام الذهبي رحمه الله.(2)
الأنصار هم قبيلتا الأوس والخزرج، وسعد بن معاذ هو سيد الأوس كلهم. وهو من بني عبد الأشهل من الأوس. ومنذ أن أسلم أيها الإخوة، كان صادقا وفيا؛ باذلا كل معه وكل ما يستطيع لدين الله عز وجل. بذل جاهه وبذل سيادته، بذل ماله وبذل قومه. حتى إنه من أول يوم أسلم فيه -كما سبق معنا- ذهب إلى بني عبد الأشهل فقال لهم: يا بني عبد الأشهل، أي رجل أنا فيكم؟ قالوا: أنت سيدنا وأعلانا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تدخلوا في دين الإسلام..(3)
انظروا أيها الإخوة، حرم على نفسه أن يحدث أي رجل أو امرأة من قومه حتى يدخلوا في الإسلام. فما بقي في دار بني عبد الأشهل أحد من رجالهم ونسائهم إلا ودخل في الإسلام..
الذي رماه بالسهم هو ابن العلقة عليه من الله ما يستحق، فوقع كما سبق معنا في أكحله رضي الله عنه وأرضاه.
سعد بن معاذ رضي الله عنه أسلم شابا، وقتل شهيدا في سبيل الله شابا، وله مناقب عظيمة في نصرة دين الله وفي الذود عن نبينا صلى الله عليه وسلم..
وحسبكم أيها الإخوة، أن بني قريظة لما قيل لهم: تنزلون على حكم من؟ قالوا: على حكم سعد. وسبب ذلك أن الأوس كانوا حلفاء لبني قريظة. فقالوا إن سعد بن معاذ سيتحرك فيه ما كان بيننا ويرحم نساءنا وأطفالنا. لكنه رضي الله عنه وأرضاه حكم بحكم الله؛ إذ لم يبق في قلبه لمثل هذه الأمور ما يجعله يرضى أن يعفو عن من غدروا ونقضوا العهد في أحلك الظروف وأشدها على المسلمين.
دخل يوما رجل من التابعين.. يقول: دخلت على أنس بن مالك، اسمه واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ -جده سعد-.. وكان هذا الشاب جسيما طويلا أبيض، فلما دخل فرآه أنس وقد كبر رضي الله عنه، فقال: من أنت يا بني؟ قال: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ. قال: ما أشبهك يا بني بسعد. ثم بكى أنس رضي الله عنه واشتد بكاؤه.. ثم قال: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة الجندل.. وهذه منطقة في شمال جزيرة العرب.. أرسل جيشا إليه.. فهذا الرجل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ديباجا أو حريرا. فلما عادوا به ورآه الصحابة، كانوا يلمسون هذا الحرير ويعجبون من ليونته وجماله. فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لمناديل سعد في الجنة خير من هذه".(4)
ولا يخفاكم ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد".(5) أيها الإخوة، هذه المنقبة هي المنقبة الوحيدة التي جاءت لأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هذا الرجل أيها الإخوة، كان يملك نصف المدينة؛ يفدونه بأنفسهم وأموالهم وأهليهم. والطاعة كانت في القبائل يوم ذاك أنه ما أمر اتبعه الناس.. انظروا لما قال: لا أكلم أحدا فيكم؛ فكلهم دخلوا في دين الإسلام.
تقول عائشة رضي الله عنها: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة؛ لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.(6)
هذا الرجل أيها الإخوة، يكفيه منقبة وفضلا أن حكمه في بني قريظة أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه وافق حكم الله.
نقف على هذا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم. ------------- (1) البخاري 4122، ومسلم 1769. (2) سير أعلام النبلاء، الذهبي 11/279. (3) السيرة النبوية، ابن هشام 1/437. (4) البخاري 3802، ومسلم 2469. (5) البخاري 3803، ومسلم 2466. (6) سير أعلام النبلاء، الذهبي 11/279.
