Get Mystery Box with random crypto!

نصّ الكلمة التي قلتها في لقاء نادي روى، في مجلس بعلبك الثقافي | محمد باقر كجك

نصّ الكلمة التي قلتها في لقاء نادي روى، في مجلس بعلبك الثقافي
19/6/2022

كلمتي الآن، هي حول الحب.. لكنْ باللغة التي اخترعناها نحن.
لكن في البدء، لا بد من الاعترافِ بسلطة اللغة. اللغة هي كلّ شيء، هي الشيء، وعدمه. ولأول مرة ربما في تاريخ الفكر، يكون إعدامُ الشيءِ سبباً لوجوده.
في اللغة، يمكنُ لكَ أنْ تخترع كلمةً للنور، وكلمة لعدمه: العتمة. للحب، وللكره.
اللغة كائنٌ حيٌّ ممتلئٌ بالقوة التي تستطيع الوصول إليكَ أينما كنتَ.. لكنه كائن هشٌّ من زجاجِ الخوفِ.
الخوفُ يمكنُه أن يجعل أي محاولةٍ لغويةٍ، سلاحاً حاداً ومربَكًا، عديم الوفاء.. لكنه، كطبع العديد من العباقرة، يحدثُ طفرة حقيقية في الابداع..
الخوفُ السائل، كما يقول باومان، لكنه خوف مبدعٌ ، على كل تقدير.

ونحن، كنّا، على مدى آلاف السنواتِ، كائناتٌ تتناوبُ على صناعة اللغات. هذا الخلق المبدع للّغةِ، جعلها تختزن الكائن البشري مذ ولد وإلى هذا اليوم.. وربما إلى الأبد، طالما أن هناك امتدادٌ في غيب الله إسمه الخلد.
تخيلوا كم أنَّ هذه الصناعة أبدية؟ وإلى أي مدى يمكن لها أن تتكامل وتتجمّل وتتخلَص من أثَر الخوف، كي تكون صنيعة الشغف بالشيء الجميل فقط.

أتأمّل المفردات، وتاريخها، وموسيقاها.. أتأملها في اللغة العربية، والفارسية، والانكليزية، والاسبانية... وأجد فيها دوماً، شيئا من التخطّي الكامن، وفعل مقاومةٍ للمحو والنسيان والقمع.. تخيلوا معي كم أن مفردةً مثل مفردة "الله" استطاعت أن تتخذَ من الأصوات أشكالاً موسيقية، في كل اللغات... حتى الكافر بالله، لا يجد مهربا من أن يجري لسانه بصوتٍ موسيقيٍّ توارثته بالقوة الأجيال عبر آالاف السنوات من الدعاء في الليل، والشوق الهادر بكلمات مبهماتٍ على شباكِ سفر، وحزن لا دواء له..

ونحنُ، لنا تاريخنا الخاص من اللغات.. ولنا حاضرها، ومستقبلها..
يدركني أحيانًا فرط الشفقة على بطء نموِّ اللغةِ، وسط هذا العالم المتسارع، متسارع في قبحه، ومهملٌ لجماله الآخذ بالشيخوخة.
كيف يمكنني أن أضعَ في فمِ هذه اللغةِ سكَّرة الحب؟
كان هذا هو دوماً السؤال الهاجس في عقلي وقلبي.
كيف؟! وبأي طريقةٍ يمكنُ لي، أنا، وأنتم، نحن المارّون على شوكِ هذا الطريق وورده، أن ننجيَ اللغةَ من الذبول.. وأن ننقذها من الذينَ يريدون بالقوة المفرطةِ قتل ثلاثة أشياء: الطبيعةَ، والإنسانَ، والوحي. الثالوث الذي جعل الإبداع الإنساني جميلاً طوال التاريخ.. ثم جاء هؤلاء، على الآلة البخارية وفرضوا على هذا الثالوث ملامح الحديد والنفط والميتافيرس..!؟
حتى الحديد، المخلوق الشجاع، جعلوه سجنا للروح.. والقلب..

كيف يمكنُ لنا، أن نستخلص من سهول البقاع، وأعمدة بعلبك، وتلال الجنوب، وإنسانها الطيّب الصالح الحنون الكريم الأنيق الدافئ الشاعر المؤمن الشجاع الصلب اللين السائل كماء ينابيع وأنهر هذه البلاد... أن نستخلص زيتَ الحب كي ننتجَ لغةً خاصةً بنا..؟

هذه هي أزمة الراوي، والرواية.
هي أزمة لغة.

كانَ في قلبي، تلك الكمية من أشواكِ الحزن، على صعوبة التعبير عن فكرة أننا "جميلون". وأن فينا أشياء كثيرة رائعة لا تعد ولا تحصى. حتى حزننا جميل. حتى عدم قدرتنا على التعبير، إلا بالبكاء الصامت في جوف الليل على شرفةٍ من الغربةِ... جميل..!
كنتُ أقول في نفسي، لا بدّ من المحاولة. وأن تكون المحاولةُ على سكّتين: الأولى، عدم تقليد أحد خصوصاً ادب الرواية في الغرب. وثانيا: أن أتكلم عن أنفسنا بكل بساطة.
اكتشفتُ، أثناء هذه المحاولة، أنَّ الثقافة الغنية التي لدينا، والفلسفة، والعرفان، والتجربة المعنوية والروحية الثرية جداً، كانت كل هذا الوقت تحاول الخروجَ من وراء جدران تخوّفنا من الكلام.. وأن لا نكون على شاكلةَ ما يتم نشره في الأدب المحلي والعالمي.
كانَت المحاولة، في وردة كاشان، خجولة.. لكنها نجحت ربما، في خلقِ كائنٍ لغويٍّ نسيج نفسه.. متفرد لأنه نما على فكرتي الخاصة عن الدنيا، وعن الروح، وثقتي العميقة جداً بالتجربة المعنوية الهائلة التي لدينا.. وأنّ الحبّ هو حقنا الأول. وأنّ المقاومة في اللغةِ لكسر حصار الطبقة المخملية التي لا تزال تفرز لنا ما ينبغي علينا قراءته وما لا ينبغي.. وما يمكن أن يسموه أدبا وما لا يمكن..هذه المقاومة في اللغة هي رديف المقاومة في السلاح.. واللغة هي التي ستبقى في نهاية الأمر!
كنتُ أودُّ أن اقول في وردةِ كاشان، أنّه نعم. . نحن كائنات عاشقة بالأصالة.. نغضب ونحزن ونبطش ونتحرك ونتوقف، بالعرض.. لكن الأصل هو للحب.
نحن ايضاً، نعرف كيفَ نحب. وما هو الحب. وكيف يمكن له أن يحيي.. وأن يشفي.. وأن يصنعَ الحياةَ التي نريدها.. في أزقة الضاحية.. وشوارع بيروت.. وفي لبنان.. وكاشان.. وباريس.. أنّه، حيثُ يجب أن نحبّ سنكون.