Get Mystery Box with random crypto!

نص كلمة في حفل توقيع الرواية في مكتبة لافندر في دير قانون النه | محمد باقر كجك

نص كلمة في حفل توقيع الرواية في مكتبة لافندر في دير قانون النهر/الجنوب.

أيها الأصدقاء والحضور الكريم،

يرتكب أحدنا غواية الغيب والاختفاء، طالما أنّه يجهل قيمة الظهور والعلن. نحن الكائنات القديمة التي حملت على متنها مسؤولية المسِّ والاحساس بالوجود، بأكبر قدر ممكن من المعرفة.
كيف يمكن للواحد فينا، أنْ يختبر وجوده ويشعر به، دون أن يدتخل الوهم، والخطأ، وسوء التقدير، ونفوذ الغير في شبكة وعيه للذات والعالم؟
هذا الاختبار الضروري والدائم، والذي قد يعترف به الواحد منا، أو يتجاوزه إلى التسليم بالعادي من المعرفة والخبرة.. اختبار ممتلئ بأصداء اللعبة بين الظهور والاختفاء، والغيبة والعلن.
كان لنا نحن، كجماعةٍ تاريخية، أن نقفَ طوال التاريخ، على مسافةٍ مراوغة من اللغة، والوعي، والوجود. كيف يمكن لنا أن نحدّد من نحن، وكيف نعي من نحن، وكيف نحسّ أطراف وجودنا في هذا الحساء الكوني الملتهب حيناً بعد حين؟
يقول جان بول سارتر بأن اللغة تسير جنبا إلى جنب مع الجسد، أي الشكل الأولي لوجود أي إنسان، وكذلك الجماعة.

وهو كلام صحيح إلى حد كبير، فالتمظهر المادي للجماعة، ووجودها الفيزيائي، واستجابتها لكلّ متطلبات البقاء والصيرورة، وخلقها لشبكة المشاعر، والتصورات، والغايات، وفهمها التأويلي لمناطق الصدام والصراع مع الجماعات الباقية، والعنف المادي مع الطبيعة، والرمزي مع الذات والوجود، كلها متمحور حول الجسد والوعي الذي يختبره الانسان فيه.

كان لنا، ان نختبر سيراً مذهلاً من التجارب القاسية والجميلة، الصلبة والسائلة، في الخفاء والعلن، منذ 1400 عامٍ، كجماعة مخصوصة، ويضاف إليها آلاف من السنوات الممتدة إلى لحظة نزول آدم وحواء.. وكان لنا أيضاً، أن نصنع عبر التاريخ وعاءنا اللغوي الخاص كما يقول العلامة دي سوسيير.

في هذه الفترة الأخيرة، أي منذ أربعين عاماً على وجه الخصوص، اختبرنا كجماعةٍ، الحد الأقصى من محاولة الإفناء الجسدي، والإخفاء القسري لوجودنا كأفراد وكجماعةٍ. كانَ هذا الأمرُ ملحوظا على تلال وسهول وأودية وشواطئ وحارات وقرى الجنوب. كانَ الظلام العامّ، واحتلال الجغرافيا، مدخلاً أكيداً لاحتلال الذات، ووعاءها الكبير: اللغة والقدرة على انتخاب مفردات وأطر وانسيابات وانزياحات السرد الخاص بنا.
وكانَت الوسيلةُ لذلك، هي محاولة قتل الجسدِ، وخطف اللغة، ومنع السرد.. هكذا كانَ المحتل، يؤسس لقاعدةِ الإفناء النهائي لجماعةٍ عمرها حوالي ألف عام ونصف!

أذكرُ، أنّ صوت الرصاص، لم يكن يخيفُ المحتل، أكثر من صرخة الكلمة. وكانَ الذين يتكلمون بالمآذن والمحابر والكنائس والجرائد وعلى الحوائط.. أخطرُ من الذين يطلقون الرصاص بدرجة. وكانوا هدفاً مباشراً للقتل.
كلّ محاولات البقاء في التاريخ، كانتْ مخيطةً بالدم على شفاه الكلمة.

ما الذي يخترق جغرافيا الجسد والعقل؟ القدرة على السرد. السرد أسلوبُ الذين يجيدون البقاء حياً. السرد كما يقول جوناتاي ري "هو البنیة الأساسیة في تجربة الزمن" ، إذن الذي يقدر على البقاء هو الأكثر إجادةً وقدرة وثباتاً في معركة السرد قبال الجيوش السردية للآخرين.
كانَت وردة كاشان، قبيل سنوات، محاولة مني، لتجربة نوعٍ مختلف من السرد الذي أنتمي إليه كفضاء حيوي للجماعة التي أحيا بها. محاولةُ التخلّص من تحميلات الأخرين علينا باستخدام سلاح الوصف المحدود والمحدد والخانق لنا. نحنُ أكثر مما يظنّ أحد. ونحن أجمل مما يتصور أحد. ونحن أليق بالحياة أكثر مما قد ترتفع القدرة الذهنية لأحد. لكن، من الذي يستطيع أن يحكي قصتنا ويسردَ شيئا مما نحاوله من الإحياء لنا وللآخرين وللعقل والروح والجسد معاً.
نحن لدينا تصورات إحيائية لكل شيء. لكن أحياناً نخطئ في سلوك الطريق السردي المناسب، فتخرج قصتنا مشوهة؟
كانت وردة كاشان، فكرتي الأولية عن اللغة والسرد، والخفاء والظهور، وركوب ظهور المفردات والأنساق السردية، والشخصيات، والحوار، والفلسفة الكامنة، والحب المنتشر في الكلمة، كي أقول لنفسي أولاً، وللأصدقاء، أنه في هذه اللحظة لا بد لنا وأن نبدأ بالظهور، بالتجلي، بالانكشاف التام، باستخراج الجميل من كل حزين وصعب في تجربتنا، وبأنّ الذي استطاع لبقاء حياً بعد 1400 عام، لا بد وأن تكون قد اختزنت روحه وذاكرته، وفلسفته، ورؤيته، وإغماضه، شيئاً من سر الإحياء.. وهذا لوحده سحرٌ كافٍ لأنْ يذهل العالم، ويدخله شيئا فشيئاً في دائرة الفرج الأخير للإنسانية.

كانت وردة كاشان، روايةً، عن سحر الكلمة، والروح الكامنة في الورد، والأسفار المعنوية من التراب إلى التراب، وشيئا من سحر بيروت وكاشان.. والجنوب: باعتباره الأب الشرعي لكلِّ الثوريين الحقيقيين والجادين والنهائيين في تماسهم مع الغيب والانسان معاً.