لما ذكر أحوال المنفقين للأموال ، وأن الله أعطاهم ومن عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية ، وينالون بها المقامات السنية ، ذكر ما هو أفضل من ذلك وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده ، ومن أراد بهم خيرا من خلقه.
والحكمة هي: العلوم النافعة ، والمعارف الصائبة ، والعقول المسددة ، والألباب الرزينة ، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال.
وهذا أفضل العطايا وأجل الهبات ، ولهذا قال: " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى ، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها ، وحصول السداد ، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم ، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم.
وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة ، التي هي: وضع الأشياء في مواضعها ، وتنزيل الأمور منازلها ، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام. ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم ، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم. " إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ " وهم: أهل العقول الوافية ، والأحلام الكاملة ، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه ، والضار فيتركونه.
وهذان الأمران ، وهما بذل النفقات المالية ، وبذل الحكمة العلمية ، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله ، وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات.
وهما اللذان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمه فهو يعلمها الناس " .