2022-09-01 02:57:13
في إحدى تنزهاتي الأسبوعية لمقهى صديقٍ لي وبينما أنا أستمع إلى "أم كلثوم" رغم عدم ولعي الشديد بها أو بصوتها المميز الذي لفت انتباه جميع الأوطان إلا إنني أتطوق كل فترة إلى استماع أغنية لها لصدق كلماتها ونُدرتها في أن توجد مثل تلك الكلمات المحاكية للواقع بشكل مثير للغرابة، إذ بي أمر بفتاة بدأت تمشي بمحاذاتي، كانت رفيعة وقمحية البشرة - كما نسميها - شعرها أسود مجدول، ترتدي تنورة واسعة زرقاء اللون يعلوها قميص فضفاض قصير أسود اللون ومكتوب في منتصفه كلمة لم استطع تبينها.. استمعت لهمسها الحزين دون قصدٍ أقسم لكم ولكن نبرة صوتها الحزينة وحرصها على انخفاض صوتها ورأسها كان شيئًا داعيًا إلى النظر لها أو الاهتمام لأمرها، كانت مكالمة هاتفية سيئة للغاية بالنسبة لي أو بالنسبة لوقعها على أذني فكيف ستكون هي؟
"الفرصة ضاعت منك خلاص، أنت دايمًا كنت فاكرني هفضل فاتحة الباب ليك يا باسم مش كدة؟ والله العظيم كنت عارفة إن إجابتك هتكون هي السكوت وليك حق أصل هتقول إيه بعد ما أديتك فرص الدنيا عشان بس تثبتلي إن اختياري صح وكل مرة الدنيا هي اللي تثبتلي قد إيه أنا حظي وحش وهفضل حزينة بسببك.. أنت تعرف قد إيه الفرص دي بتاكل من طاقتي وجهدي وعُمري؟ طب أنت عارف أنا استحملت كلام قد إيه عشان بس بقول لا هتتغير وهتعمل عشاني أقل حاجة مش حاجة معجزة كمان؟
عرفت إن خسارة فيك ربع فرصة زيادة كمان بس يا حسرتي، عرفت ده في وقت متأخر أوي ضيع عليا أنا الفرص الصح.. "
تقدمت عليها أنا في الخطوات عندما وجدتها استندت إلى سيارة تقبع على الجانب الأيسر من الشارع حتى لا تكتشف أنها كانت مُراقبَة من شخصية غريبة مثلي ولكن وددت للغاية احتضانها وإخبارها أنها حتى لو خسرت فرصًا صحيحة فهي قد اكتسبت نفسها بعد معركة مليئة بالقتل والعذاب.
وصلت إلى محطة المترو وأسرعت بشدة للحاق به قبل أن يفوتني وأصبح كتلك الفتاة التي فاتتها فرصها، يا لوقاحتي كيف لي أن أقارن عربة المترو بفرص شديدة الأهمية في الحياة؟ أعتذر بشدة..
المهم، لحقتُ بحمدالله المترو ولكن الحياة لن تعطيك كل ما ترغب به فقد ركبت في عربة الرجال وهذه من كانت في مقدرتي اللحاق بها من كثرة الازدحام، لستُ من تلك العينة التي تفضل الاختلاط بالرجال ولفت انتباههم ولكن المترو يجعلك مثيرًا للشفقة في بعض الأحيان. بينما أخرج سماعات الأذن خاصتي لأرتديها وأكمل رحلتي العبثية في عالم "أم كلثوم" إذ بعيني تسقط على رجل ثلاثيني مهندم الشكل، يرتدي بنطالًا من خامة الچينز بداخله قميصٍ مليء بالمربعات الصغيرة والتي نطلق عليها "كاروهات" وعلى رأسه توجد نظارة شمسية وشعر حاجبيه كان كثيفًا ولكن منظرهما في العين حقًا رائع ولا أعلم ما السبب ولكني أعلم أن تلك التفاصيل الصغيرة هي من تأسرني لا غيرها.. كان يجلس على المقعد المقابل لي ويسند ورقة صفراء اللون قليلًا على ظهر كرسيه وبقلمٍ أزرق بدأ يخط بضع كلمات تبينت حينها أنها لخطابٍ خاصٍ لأحد من معارفه واستطعت أن أُبعد عيني من عليه؛ فالخصوصية خط أحمر لا يجب أن نتخطاه مهما كان الأمر وإلا أصبحنا أشخاصًا فوضاويين، ولذلك فضلت أن أصبح فوضاوية على أن أفوت تلك الفرصة الذهبية في أن أرى مشاعر شخصٍ وهو يكتب خطابًا ما لأول مرة في حياتي وكان الخطاب كالآتي تمامًا..
" زوجتي المصون، أحبكِ..
تعلمين إني في غاية السوء في التعبير عن الذات وعن المشاعر وخصوصًا باللغة العربية الفصحى كما تفضلينها ولكني استعنتُ بطارق زميلي في المدرسة حتى يساعدني في كتابة هذا الخطاب لكِ بالطريقة الصحيحة، أعدكِ بأنني سأتغير وسأمنح كل وقتٍ فارغٍ في حياتي لكِ ولطفلنا القادم في الطريق، في شدة الخجل منكِ لكونك سامحتني وقبلتِ بإعطائي فرصة آخرى وسأكون خير من ينتهز تلك الفرصة لتغيير كل سيء قد كان موجود بيننا..
في الآخر عايز أقولك إن مش الأخطاء الإملائية ولا العربية الفصحى اللي هتقف حيطة سد بينك وبين إني أقولك إني آسف وإني بحبك.. خليكي معايا وأوعدك هكون الشخص الصح ليكي. "
عندما انتهى ذلك السيد من طيّ ورقته في الظرف الذي كان ملتصق به زهرة حمراء صغيرة التفت لي فوجدني في غاية التأثر بالحديث فجعلني أشعر بالحرج المبالغ فيه ولكنه قال لي جملة قد تكون هي أولى التجارب التي سأضعها منهاجًا لي فيما بعد..
" الحب فرصة، والفرصة حب، لو بتحب هتفضل تدي فرص ولو بتحب هتعرف تاخد الفرص دي في حضنك كأنها طوق النجاة ليك.. بس متخليش حبك يموتك عشان الحب حياة فإزاي يموت؟"
لا أتذكر ما فعلته في بقية اليوم وعدت إلى المنزل أسترجع جميع الأحداث حتى أُرهقتُ فأعددتُ كوبًا من الشاي الساخن وأمسكت بهاتفي أخبركم بمدى الأشياء التي لا نعييها إلا في آخر المطاف وشكرًا.
-ميّ صالح
128 viewsتُـقىٰ جَبر, 23:57
ي
