Get Mystery Box with random crypto!

'في الموقف من العامَّة والجماهير' من الأحكام السائدة الذائعة | محمد أبو فارس

"في الموقف من العامَّة والجماهير"

من الأحكام السائدة الذائعة : احتقارُ الجماهير ، واعتبار مواقفهم لا عقلانيةً بإطلاق ، وبناءُ موقفٍ انتقاصيٍّ منهم .

وهذا الحكم فيه نظرٌ ؛ لأن العبرة في تقويم الأمور هي كونها موافقةً لما هو حقٌّ وعدلٌ في نفسه أو لا ، وهو ما قد تكون هناك جماهير تنصره أو ترفضه .

وقد ورد في القرآن ذم الكثرة كما في قوله تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) والثناء على القلة كما في قوله تعالى (وقليل من عبادي الشكور ) ولكن أيضًا ورد ذم القلة كما في قوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء) والثناء على الكثرة كما في قوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ..) .

فالعبرة هي بالعقيدة أو المقولة التي اجتمع عليها القلة أو الكثرة ، وإذا كانت الكثرة نادرا ما تجتمع على الحق فإن هذا لايصح أن يؤخذ منه موقف تحقيري لها بإطلاق ، بل لا بد من تمييز أنواع العامة والجماهير ؛ إذ هناك جماهير حق كما هناك جماهير باطل .

ومن ينظر في كلام سلف الأمة وأئمتها فيجد فيه ذما للغوغاء من قبيل وصفهم بأنهم "يُغلون الأسعار ، ويُزاحمون في الطرقات ، و .." فإنه سيجد في المقابل ثناء عليهم من قبيل وصفهم بأنهم "يُطفئون الحريق ، ويغيثون الملهوف ، و .. " أعني أن من سيجمع من كلام السلف ما فيه ذم للعامة سيجد من يرد عليه بنصوص مقابلة ، وإن كانت غير متعارضة ، لكنها تصف الموقف التكاملي الدقيق في الموقف من الجماهير .

ومن يقرأ في التاريخ عامة وفي التاريخ الإسلامي خاصة سيقف على مواقف شنيعة وقبيحة للعامة ، كما أنه سيقف لهم على مواقف مشرفة وجميلة .

والخلاصة : أن الجماهير تتأثر بالإطار المرجعي الذي يحكمها قليلا أو كثيرا ، مما يجعلها تتنوع أحوالها ومراتبها بتنوع هذه الإطارات المرجعية ، وبتنوع استجابتها لمقولات هذه الإطارات ، والموقف العادل منها هو الموقف المستصحب لهذا التفصيل والتدقيق ، والناظر في أن العبرة هي فيما كان حقا ، وهو ما قد تدل الكثرة بحالها وقرائنها على أنه قولها ، كما قد تدل بحالها وقرائنها على أنها لم تصبه .

ويُستفاد من ذلك : أن الاستدلال بالكثرة على صحة قول ما ليس من المغالطات بإطلاق ، كما أنه ليس دليلا معتبرا بإطلاق .

وهذا النظر التفصيلي في الموقف من الجماهير يقي المسلم العاقل من الأحكام المعلَّبة المقولبة في الانتصار للجماهير أو تحقيرها .