2022-06-03 21:11:13
كتب الأخ الفاضل السيد صلاح الحلو:
تشرَّفتُ بمعرفة سماحة العلَّامة الشيخ شاكر شريف القرشي في تسعينيَّات القرن المُنصرم, إذ كان اعتقادي آنذاك أنَّ الخطيبَ أشدُّ معرفةً من غيره في تذوّق الشعر, وأنشدتُ بين يديهِ قصيدةً رائيَّةً في مدح الأمير - عليه السلام -
(رماني بسهمِ الوجدِ في القلبِ أحورُ).
وكان تعرُّفي عليه عن طريق صاحب صيدليَّةٍ كنتُ اعملُ عنده,وكان يأتي بالشيخ إلى منزله في منطقة السَّراي بالكوفة صباح أيام وفَيَات المعصومين - عليه السلام - فيقرأ في أنفارٍ معدودين من الخواص خشية أن يعلم النّظام به مجلِساً مختصراً نحو ربع ساعة, ثم يكون هناك فطورٌ صباحيٌّ على شرف المعصوم - عليه السَّلام - صاحب المناسبة, من الصمون الحار, والمُربى الفاخر, وقيمر العرب.
وذات مرة طلب مني بعض السَّادة من الأقارب خطيباً ليقرأ في ليلةٍ من ليالي شهر رمضان مجلساً في شهادة الإمام علي - عليه السلام - وتبرَّع بعضُ الأخوة أن يأخذه بسيارته ويردَّه إلى بيته,إذ كان الشيخ لا يرى جيداً خصوصاً في أخريات عمره المُبارك.
وعند دخوله المجلس لمح عمامةً ولكنَّه لم يتبيَّن -لضعف بصره - صاحبها, فسألني عنه, فقلتُ إنَّه الشيخ محمد جواد المحتصر - رحمه الله - وكان من فضلاء النَّجف كما سمعت.
فقرأ الشيخُ - رحمه الله - مجلساً في نحو ساعةٍ كاملة خاض فيه بحر التاريخ والسيرة خوض الغوَّاص الخبير الذي يستخرج اللؤلؤ والمرجان من قيعان المحيط, ونالت محاضرتُهُ تلك استحسان الحاضرين.
ومن سوء حظي أن غادرت الحيَّ الذي اسكنُ فيه إلى غير مكان, وخسرتُ اللقاء بذلك الرجل العالِم الصبور المتواضع.
كان يُحدثُني عن مكتبته التي سُرقت, وكتبه التي نُهبت إذ لم يُرزق الشيخ أولاداً يحفظونه ومكتبته.
وحدَّثني من ضمن أحاديث كثيرةٍ عن مشروعه في تأليف كتابٍ عن الكتب, وتاريخها, ونوع الورق وأقلام الكتابة وغير ذلك.
في العام الفائتِ رأيتُ دورةً من كتاب (لُبُّ اللباب فيما جرى على المكتبات والكتاب) في خمسة عشر جزءاً في رفوف مكتبة بعض المشايخ الكرام, وسألتُهُ عنها فأجابني أنَّها طبعةٌ خاصة وليس تُطبع بعد ذلك, فحزنت, ويئستُ من الحصول عليها إذ المطبوع منها كما سمعت مئة نسخةٍ لا أكثر.
أمس الأول وأنا في الدَّوام هاتفني بعض السَّادة من ذوي المودَّة العالية وقال لي إنَّه أهدِيَت له دورة من كتاب (لُبُّ اللباب) وقرأها فلم يرَ من نفسه أنَّه ينتفع بها ويُريد أن يهديها لي, وتواعدنا أن نلتقي اليوم, وأولَمتُ له وليمة سمكٍ مشويٍّ أطيب ما يكون, وشرَّفني نحو الواحدة والنَّصف وبيده كيسان فيهما المجلدات الخمسة عشر.
ولمَّا خرج مُشيَّعاً بركائب الثناء عليها هودج الشكر, تصفَّحت الجزء الأول من الكتاب , فذكر - رحمه الله - أنَّه فُجِع بمكتبته التي أوقفها للإمام الحسين - عليه السلام - وكانت في محلَّة العمارة التي فيها بيوت أهل العلم فعاقبها الطاغية بهدمها عن بكرة أبيها, فنقل المكتبة إلى داره في الكوفة الكائنة قبالة ملعب الكوفة تقريباً, ووجد أنَّه سُرق منها ما يشكّل مكتبةً كاملة.
وكيف دخلها جلاوزة البع-ث بعد الانتفاضة,
ولمَّا هدَّدت الحكومة الآثمة بمعاقبة كلّ من يحتفظ بمخطوطةٍ كتابية حمل إلى دار صدا-م للمخطوطات أربعاً وأربعين مخطوطةً نادرة خوف العقاب, وبقيت عنده خمسٌ وعشرون مخطوطة تمَّت سرقتُها جميعا!
بل إنَّ المعتدي الأثيم لم يكتفِ بذلك بل سرق منه دفاتره التي سجَّل فيها كلَّ شيّقٍ ونادرٍ في أثناء مطالعته الكتب, وكانت تلك الدفاتر نواة ثلاثة مشاريع للتأليف (منطق الأحرار) (منطق العبيد) وكتاب عن الإمام الهادي - عليه السلام -
ولأجل فجيعته بكتبه كتب عمَّا جرى على المكتبات من القرن الأول الهجري حتى القرن الخامس عشر.
وأنت لو قارنت بين هذا الكتاب الذي تصفَّحتُ منه مواضيع كثيرة, وتنعم النظر في الهامش في المصادر التي اعتمدها ومنها النادر كالمعدوم, لعلمتَ مدى الجهد المبذول فيه مقارنةً بكتاب (كتب تحترق) ل- لوسيان بولا سترون.
رحم الله العلامة شاكر القرشي, وليت موسراً, أو مؤسسةً ثقافية تُعنى بهذا الأثر النفيس فتتكفَّل بطباعته طباعةً فاخرة تليق بجهاد مؤلفه وجهده.
525 views18:11