Get Mystery Box with random crypto!

(بابا لا يعرف كل شيء!) ذات مرة، سأل صديقي في طفولته والده (ر | السبيل

(بابا لا يعرف كل شيء!)

ذات مرة، سأل صديقي في طفولته والده (رحمة الله عليه) عن أمر فردّ عليه ببساطة (لا أدري!). هنا بكى صديقي الطفل، ولدى سؤاله عما يبكيه قال (لأن بابا لا يعرف!).

حقاً كيف له ألا يعرف بعد كمّ الإجابات التي لقنها لابنه منذ تعلم نطق كلمات (لماذا) و(كيف)! بشكل عام، يدرك كل واحد من أبناء جيلي تقريبا أنه في يوم من أيام الصغر قد ظهرت لنا هذه الحقيقة المرّة والتي غيرت من فهمنا البسيط للحياة. الأمر مشابه لذلك اليوم الذي يكتشف فيه أي طفل نصراني كذبة بابا نويل، بخلاف فقط أن تصوّر المعرفة الكاملة لدى والدنا هو تصور خاص نشأنا عليه قبل خروج محركات البحث على الشبكة الدولية.

لماذا؟ لأن بابا هو المعلم الأول، جليل المقام بما يتفضل به من توعية وتوجيه ونصح لأبنائه. كان هو المرجع العلمي في كل أسرة حتى يدخل الطفل المؤسسات التعليمية ويبدأ بمقارنة علم الأساتذة بمعرفة والده. ثم يتبلور فهم جديد لدى الطفل عندما يدرك أن الأستاذ أيضا لا يعلم الإجابة أحيانا ويحتاج للبحث عنها. فيخرج طالب العلم بنتيجة مفادها أن كل إنسان زائل بعلمه؛ وأن جزءا من دورة الحياة هو مسؤولية التعلم وتمرير هذا العلم لمن يستطيع أن يحفظه ويضيف إليه من بعده. وبذلك يبقى المرجع العلمي محفوظا بجهود المتعلّمين.

ربما أبالغ في الأمر لكن كان ذلك إلى حد ما واقع الأطفال قبل الألفية، إما الأب أو الأم ومن ثم المعلم. بعد الألفية، أصبح الطفل يثق في جوجل ويوتيوب أكثر مما يثق في علم والديه وعلم الأساتذة أنفسهم. فبعد أن تعاظمت العلوم الرقمية المتاحة على الشبكة مع سهولة الوصول إليها دون اكتراث حقيقي للمعلمين الأفاضل، أصبحنا نرى العديد في هذا النشء ممن هم متمركزين حول أنفسهم وفهمهم الخاص للحياة بدعوى سعة اطلاعهم الشخصية. وأصبحت القضية عندهم إثبات رأيهم الصحيح. وعند أول خلاف، تصبح المسألة بينهم على محركات البحث كل يسعى وراء صفحات تدعم رأيه للبت في الأمر.

أفهم شخصيا أن العلم هو علم في النهاية، وأن الطالب يبحث عمن لديه العلم، حتى لو كان غريبا أو بعيدا. لكن المعادلة كانت دائما تقتضي بتبادل العلم مع حفظ الاحترام والتقدير. فالإنسان لدى تعلمه يحاول أن يختزل ما يتفضل به عالم آخر. فليس كل متعلّم هو معلّم، لكن كل معلم هو متعلم. هذا المعلم الذي كان يؤدي واجبه الجليل في تعبه وحزنه ومرضه، يقف ويتكلم لساعات ويعيد ويكرر حتى يتأكد من استيعاب الطلاب، كيف لا نقف له احتراما وتبجيلا. بالإضافة إلى أن الطالب كان سابقا يُعرف بمعلمه، ويتشرّب من أخلاقه ومبادئه فالمعلم هو القدوة الحسنة في كل تصرفاته. حتى وإن عاقب الأستاذ الطالب على إهماله وتكاسله، كان والديّ الطالب يقولون للمعلم (اكسر ونحن نجبر). طبعا قد يعترض الكثيرون الآن على ذلك، لكن الشاهد هو أهمية دور صاحب العلم في التعليم آنذاك.

بيد أن كل هذه المفاهيم كما عاصرناها على وشك أن تتغير كليا للجيل القادم بسبب تقنية الذكاء الصناعي وما يمكنه أن يقدم في حقل التعليم. ولست أدري إن كان باستطاعتي حقا أن أصف العملية بالتعلّم كما هو المعهود في اختزال العقول للعلوم التي يتفضل بها المعلم. إذ أن الطالب حينها لن يرى سببا وجيها لأن يحفظ أو يكتب أي شيء. لأن المعلم أو بوصف أدق (المستشار الرقمي) سيكون منتظرا في جيبه، ومستعدا للإجابة على جميع الأسئلة وتقديم جميع الفروض وتنفيذ جميع المشاريع التعليمية دون كلل أو ملل. وبالطبع فإن جميع الإجابات والملخصات والنصائح التي يقدمها الذكاء الاصطناعي هي دون مرجع، إذ أنها عصارة تحليل جميع العلوم والمواضيع المنصبة في سؤال الطالب.

عندما كنت طالبا في الجامعة كانت تصر إحدى معلمات اللغة الإنجليزية على أن نستخدم قاموس إكسفورد الإنجليزي في إيجاد معاني المفردات، وتمنعنا من استخدام جهاز أطلس المترجم السريع. وكان أحد الدكاترة يلزمنا بضرب المصفوفات يدويا باستخدام الآلة الحاسبة العادية، مع أن الآلات الحاسبة العلمية كانت تقوم بذلك في ثانية. كنا نتساءل حقا لماذا؟ ثم استوعبنا أن المطلوب هو تأصيل العلم الذي يبنى عليه وليس الإجابة بحد ذاتها. وتأصيل العلم لا يتم بحفظ الاختزالات التي يقدمها الحاسوب، بل بالبحث، والاطلاع، والتحليل، والفهم.

كان المعلم يورث علمه لطلابه، ومن خلفه يبني الطلاب علما فوق علمه، يترحمون عليه ويورثون علمه لمن بعدهم. لكن يبدو أننا وصلنا إلى المرحلة التي يموت فيها الطلاب ولا يموت معلمهم. المرحلة التي لن يشعر الطالب بقدرته على إضافة شيء لما يتعلمه أو أن يفوق معلمه علما. المرحلة التي سيشعر الطالب بعجزه تماما أمام علم الآلة المخزون ويتمركز حولها بدلا من معلمه أو حتى نفسه. المرحلة التي لن يعود الطالب فيها وصيا على العلم أو حتى يقدّر صاحب العلم لأنه باختصار، الآلة ستصبح أذكى من الجميع.

محمد نبيل