Get Mystery Box with random crypto!

التصوير في القرآن التصوير كما يقول سيّد قطب: “الأداة المفضلة | السبيل

التصوير في القرآن

التصوير كما يقول سيّد قطب: “الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة؛ فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل”.[1]

وللتصوير ضروبٌ شتّى، وهدفها واحد، كينابيع عدّة تصبُّ في مجرى واحد، وهي كما بيّن سيّد: “تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملّاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان”[2]، وهذا من ثراء أسلوب التصوير وتنوع معالمه وطرقه ومظاهره في التأثير على النفس الإنسانية.

وهذه الازدواجية في الخطاب القرآني بين العقل والوجدان ينضوي تحتها القرآن كله، فتارة يكون بعض ما يتعلق بتوحيد الألوهية والربوبية، أو مشاهد الحياة في الأرض وفي الإنسان، أو مناظر يوم القيامة وكل ما يتعلق بالجنة والنار من صور النعيم والعذاب، أو حيثما شاء أن يعبّر عن حالة نفسية أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني أو حدث تاريخي، يُعبّر عن كل هذه العناصر بطريقة العرض القرآني المعجزة الفريدة في إحياء المشاهد في كيان المتلقّي بالتخييل المنظور والواقع الملموس، ولنستعرض أمثلة، منها: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 1-4].

تأمّل هذه اللوحة المبهرة التي رُسمت بغير ريشة ولا ألوان! تأمّل هذا الحشد الهائل من الصور والأشكال التي تنبض بالحياة!

هو الله الذي نصب السماوات عاليًا دون أعمدة ترفعها وتحملها وجعلها سقفًا محفوظًا للأرض، فأين ما تطلبون من معجزات مادية محسوسة وفوقكم آيات كونية ناطقة بالحق؟ وذلّل الشمس والقمر لمنافع خلقه[3]، وأسّس الحياة على قاعدة الزوجية، وبسط أرضها، وأرسى جبالها، وأجرى مياهها، وهيأها لاستقبال الوجود البشري في حناياها.

إنّ هذه الأرض الرحبة الغنّاء بأنهارها الجارية وجبالها الراسية، وما فيها من ثنائيات متقابلة، وهذا الصبح المتنفِّس الذي يطلعُ على العباد بشروقه الأخّاذ، وتضوّع نسيمه الأريج الزكيّ، وتسليم الشمس عرشَها إلى القمر عند المغيب ليفترش السماء، ويضيء بنوره الساحر، ويمحو صخب الحشود، ويُسدِل سكينته على القلوب والوجود، وفي حركة الليل والنهار الدائبة التي يجتمع فيها المعنى النفعيّ والحسّ الجماليّ، وتلك الأراضي المتجاورة المتضادة مختلفة الألوان والأشكال والطبيعة، وما ينبت فيها من زرعٍ ذي منبت واحد أو متفرّق، واختلافها عن بعضها بعضًا بالنسق الظاهري والهيئة واللون والطعم والرائحة رغم كونها كلها تُسقى من نفس الماء!

إنّ هذا الحشد الغفير من الظواهر والصور، والحركة والسكون، والألوان والأشكال والثنائيات المتقابلة؛ تلمس بمنطقها الفطري المباشر الحسَّ وتوقظ القلب والعقل من غفلتهما، وتثير الوجدان وتستجيش كل خالجة فيه ليستنشق الحياة، ويُصغي إلى لغة الكون ويفقه دلائلها والحقائق المنطوية في داخلها، ويتأمل في صفحة الوجود صنعَ الله الذي أتقن كل شيء.

المزيد في جديد مقالات السبيل: "العقل والوجدان في القرآن صنوان لا يفترقان.. نماذج تطبيقية" بقلم رامة سهيل بشير
https://bit.ly/43BPmn9