2022-05-21 02:38:59
البداية في الخلوة
تأمل معي كل ما قيل، ثم انتظر بقية
المعنى: ( كيف تكون البداية في الخلوات)!
(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا) إذ أول الابتداء خلوة المتعلم، لذا؛ حبب إلى محمد ﷺ الخلاء في غار حراء أول الأمر؛ ليكمل له الميراث، ويصح له الانبعاث، وعلمه سبحانه الصمت المقدس في حضرة الجواب؛ فأقامه لذلك في غار العزلة، وأرهف سمعه لهمس الكون ورسالة ثقيلة تقترب منه في أناة.
«يأيها المزمل»، يمس الصوت أعماق محمد ﷺ ، فقد كان النداء لحظة اصطفاء فوق دهشته المرتجفة، « قُمِ ٱلَّیۡلَ» ومن الليل ستنتهي إلي!
كانت مكة تضج بالطرقات الموحشة، ومحمد في غاره يتفتق تساؤلا كلما أرخى الليل صمته، تنذره الرمال الممتدة بحياة مدفونة، بمساء جاف، بفراغ لا يتناهى، وبصمت لا جواب له، حتى أتاه الصوت {يأيها المزمل} .
{يأيها المزمل}، يرتجف النبي ﷺ من فجأة الوحي، تزمله خديجة ويمد عينيه لعينيها، فتمد روحها له وشاحًا، يمتد النداء بـ(يا أيها) وترى اللام في (المزمل) تنثني عليه عطفا كأنه بها يتزمل بكل ما في يديه، لكن النداء يعلوه وكلما تناءى بخوفه دنى منه الصوت: {قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا}، إذ الليل هو خلوتك الآتية من الله بديلا عن خلوة الغار وصمته الساكن.
لقد كان هذا الصمت صمتا جديداً يا محمد، صمتًا ممتلئًا، ففيه عزلتك التي سيملؤها: {ورتل القرءان ترتيلًا﴾، عُزلتك التي ربما تستغرق الليل كله أو نصفه، عزلتك التي ستتلقى فيها كل الإجابات وبصيرة الطريق!
(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلَّیۡلَ إِلَّا قَلِیلࣰا) فهذه عزلة بفهم جديد حيث يصبح للصمت والسكون حكمة التأمل، وحيث يتلقى قلبك في هدأة الليل رسائل السماء، وينفتح عقلك لكلمات الله، وفي محراب الليل تولد الحكمة، وفي الليل فقط يستيقظ ما هو أصيل وكامن فينا.
نحن في الليل نلتقي بأنفسنا، بانحناءاتنا، وبكل عجزنا، وبكل تباريح الضعف فينا، وفي قيام الليل تبدأ مدرسة جديدة، مدرسة الإصغاء العميق، وكلما تكثف الصمت سمعنا صوت الحقيقة دون مجاملات القوم، وعرفنا من نكون.
تری كم ينقصنا لنتعلم كيف نخلق حاسة الإصغاء للتيه الذي يكبر فينا! وللوجع الذي يتمدد فينا وينتظر صوت الشفاء كي لا يستمر فينا.
بين يدي «قم الليل» ؛ إذ الليل هو زمن الشجاعة؛ حيث يعلمنا كيف نعترف لله بكل تشوهنا، وبكل الشهوات التي لا يسمع دبيبها في السويداء إلا الله.
الليل زمن يكتبك أو يرسمك أو يبعثك من جديد بعد أن نالت الضوضاء من صمتك كثيرا، تغتالنا معارك النهار، وتلتهم منسأتنا كأنها تدل القوم على موتنا أو تعجل به، نتلوث في أحداث الحياة حتى يلقى بنا في آخر السطر، أو آخر الأمر، أو حتى في ذيل القوافل كلها. فيأتي الليل كلحظة سلام أبدية، يغشاها تجلٍ إلهي، يقترب منك وتكاد تشعر به إذ يقول لك: «هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه»، ها هو بكل أسمائه الحسنى وصفاته العليا يأتيك أنت أنت، فاعبر إليه، استلهم من فضله فضلك، ومن قوته قوتك، ومن سعته سعة أحلامك، اعبر إليه، ها هو يبيع لك كلما توغلت في النافلة أن يكون سمعك وبصرك؛ حتى لا تزيغ، ولا تزل، ولا تضل... فهل ستشتري؟
ها هو يسألك أنت أنت: « هل من سائل فأعطيه»؟ فاجثُ على ركبتيك، وارفع يديك، ودع المناكب تنحسر عنها كل الأغطية، وانخرط في بكاء وتوسّل طويل؛ فقد أراد أن يمنحك. «قم الليل» حتى تتعلم الوصل، قم الليل حتى يزيد القرب، قم الليل حتى ينتهي من عالمك معنى المستحيل!
«قم الليل» فلن يفلح العجز ولا الرعب ولا كل الفوضى أن تبلغ منك.
«قم الليل» ورتب أوراقك، وتدبر كيف أمر الله بعد قوله: «وثيابك فطهر، والرجز فاهجر» بقيام الليل؛ إذ الليل ممحاة الذنوب.
«قم الليل» فكل معرفة لا بد أن تبنى على العرفان؛ والعرفان هو أن تعرف ربك بدمعك، وبتسبيحة خفية، الليل يرفع مقامك؛ ولهذا كان به الابتداء.
فيا كل متبع، «قم الليل» إن كنت تبغي حياة ذات معنى وأثر، ثق أن الرسالة في الأرض حرفة متجرها الخلوة، وقفل الحانوت له مفتاح، اثن الركب على عتبات الصمت حتى تبلغ جلوة الوعي، ويليق بروحك أن تسمع كلمة: «اقرأ» تتلوها أنت من بعد على ملأ من النّاس؛ فللصمت والعزلة مهمة في بناء الذات، وما المرء إلا نتاج خلواته، فللخلوة رسائلها وإلهامها ووعيها، لكن لاتكن في الخلوة من إنصاتك خاليا، ولا تحمل ضوضاءك إلى الخلوة، فتكون بها منشغلًا.
وكان قياما هادئا تتجذر معه أقدام النبي ﷺ كلما رتل «القرءان ترتيلا» ؛ يرتفع في القيام وترتفع معه أمته، فقد قال له الله {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودًا }، وقد كان.
16 views23:38