Get Mystery Box with random crypto!

من العسيرِ، إن لم يكن من المحَالِ الممتنع، أن أقصَ عليكَ في كت | عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي

من العسيرِ، إن لم يكن من المحَالِ الممتنع، أن أقصَ عليكَ في كتابٍ كبيير، قصَّةَ شعوبٍ مختلفة كثيرةِ العدد، تطاولت عليها إيام وتتابعتْ سنون، منذ ذَرّتْ عليهم شمس اليقظة، ثم انبسطت عليهم أشعَّتها، حتّى تحركَت أوصالُ كلِّ حي من جماهيرها الغفيرة، هذا محال. أفتظن، إذنْ، أني قادر على مثل ذلك في ورقاتٍ قلائلَ؟ كلاَّ، فما هو إلا هذا الوصف السريع الخاطف.
تهاوَتْ في أوربّة سًدود الجَهْل، وأنبثقت اليقظة، وفتِحت بعض مغاليقِ خزائن العلم، وانقشعت ظلمة (القرون الوسطى) ، ولاحت تَباشير فجرٍ جديدِ، واصطفَّ الهَمَج الهامج كتائبَ تزحف في أيديها مصابيح ينبعث منها بصيص يضِيء ليكشف غياهب الظلمات، واستنارت الطرق، وازدحم على سلوكها كل مطيق للزحف وبالصبْر وبالجهْد وبالجرأة وبالعزيمة ونبذِ التواني، صارت أوربّة قوةً تُمدّها فتوح العلم الجديد بما يزيدها بأسًا وصرامة .... ولا أقول شال الميزان، بل أقولُ بطل عمل الميزان، وصارَ في الأرض عالَمَانِ عالَم في دار الِإسلام مفَتَّحة عيونهم نيام، يُتَاخم من أوربّةَ عالماً أيقاظاً عيوُنهم لا تنام، وقضِىَ الأمر الذي فيه تستفتيان! وبدأت (المرحلة الرابعة) في الصراعِ بين المسيحية المحصورة في الشمالِ، وبين دارِ الإسلام التي تحجُب عنهم من ورائها عالمًا مبهماً متراميَ الأطراف، (انظر أول الفقرة السالفة: 16) .
وكان ما كانَ ... فمع اليقظة ازدادت (الأهداف) وُضوحاً وجَلاءً، وازدادت (الوسائلُ) دقّةً وتحديداً وشمولاً، بعد أن وَعَظت أوربّةَ المراحلُ الثلاثُ الأوَل التي لم تصنع للمسيحية المحصورة في الشمالِ شيئاً ذا بال. (الأهداف) معروفة لك الآن، أكبرها شأناً هو اختراق دار الِإسلام، ثم تمزيقُها من قلبِها، ثم الظفر بالكنوز الغالية التي كانت، ولم تَزَلْ، تراوِدُ كلَّ قلبٍ ينبض في أوربة بأحلامٍ شَرِهةٍ مسعورةٍ إلى الغنى والثروةِ والمتاعِ، غَرَستْ بذورَها في أعماق النفوس أحاديثُ العائدين من حملات الحروب الصليبية القديمة. أمّا (الوسائل) ، فقد وُضِعتْ لها قواعد راسخة تجنبُهم أخطاءَ المراحلِ الثلاثِ السابقة التي منِيَت بالِإخفاق. كان على رأس هذه القواعد: تنحيَةً السلاحِ جانباً، بعد أن ثبت لهم إخفاقه في اختراق دار الإسلام، لأنّه يستثير ما لا يعلمونَ مغبَّته من سوءِ العواقب، وكفى بالتجارب الثلاث الغابرة وَاعظاً. فمى يومئذِ صارتِ القاعدة الراسخة في سياسة أوربّة هى اجتنابَ استثَارةِ هذا العالم الضَّخْم المُبْهَم الذى كان (الترك) هم طلائعَه المظفَّرةَ الناشبةَ أظافيرُها في صميم المسيحية الشمالية في قلب أوربة = ثم العملَ الدائبَ البصيرَ الصامتَ الذى يُتيح لهم يوماً مَّا تَقْليمَ هذه الأظافِر وخَلعَها من جذورها = ثم استنفَادَ قوَّته بالمناوشةِ والمطاولة والمثابرة، بالدهاء والمكر والسياسة والصبر المتمادي، حتى يأتي عليه يوم لا يملك فيه إلا أن يستكينَ ويستسلمَ، وليكُنْ كل ذلك من وراءِ الغَفْلة، وبالدهاء والرفْقِ تارةً، وبالتنمُّر والتكشير عن الأنيابِ تارة أخرى ... وكذلك كان ما كانَ، وما هو كائن إلى هذه الساعة، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.
وفَضَّت المسيحية الشمالية قيودَ الحصار عن نفسها، وخرجتْ جحافِلها مكتسحةً تجوب البحرَ والبرّ. انطلقت الأساطيل من شواطيء أوربة مزوَّدةً بالعدة والعَتَاد والرجال الأشدّاء والمغامرين، والعلماءِ والرهبان، وهدفها أن تطوِّق دار الإسلام محيطة بها من شواطيء المغرب إلى شواطيء الهند، تتحسَّس مواطن الضعف في أقاليمها المتطرّفة، فانقضّوا على الضعيف والعاجزِ والغافل، وخادعوا ونافقوا، وآستغفلُوا وأرهبُوا، واستنزفُوا ونهبوا، وازدادوا شَهوةً وشَراهَةً وجُوعاً إلى الكنوز المخبوءةِ في قلب دار الإسلام، واستضعفوا وسيطروا، ولهيب في القلوب لا تطفأ نارُه. وفَجْأة، وبمعونة البحّارين المسلمين العرب، عَثَر كولمبس (1451 - 1506 م / 855 - 912 هـ) على أرض الهنود الحُمْر (أمريكا) . وما هو إلاّ قليل حتى تدفَّق السيل الجارف من أوربة، يجذبه بريق الذَّهب والغنَى، وملأ المغامرون القساةُ الغِلاظ الأرضَ البِكْرَ، وزحفوا فيها واستباحوها، وسَفَحوا دماءَ الملايين سفحاً مُبِيرًا، غَدْراً وخِسَةً، لا يردَعًهم رَادع عن استئصال شأفتهم بقسوةٍ وعنْفٍ، وشَفَى كُل أوربيّ غليلاً كانَ في قلبه مُعَدًّا لدار الإسلام، واتَّجهت أساطيلهم إلى إفريقية تختطف آلافاً مؤلَّفةً من الآمنين السُّود مسلمين وغير مسلمين، رجالاً ونساءً وصغاراً، يحملونهم في السفن إلى هذه الأرض الجديدة البعيدة، أرض الهنود الحمْر، وتهلك في هذه الرحلات آلاف كثيرة منهم تحت السِّياط، وتبقى آلاف قليلة تلْقَى على البر لتكون تحت أيديهم بَهائمَ مسخَّرةً بالذّل لعمارة الأرض.