Get Mystery Box with random crypto!

وظهر الفساد في البرّ والبحر، وبلغت أوربة مبلغاً يزيدها فجوراً | عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي

وظهر الفساد في البرّ والبحر، وبلغت أوربة مبلغاً يزيدها فجوراً وشراهةً وسفكاً للدماء، وغطرسة فوق ذلك تزداد على الأيام في نشوة عارمة، نشوة السكرانِ الثَمِلِ إلى جانبها إفاقَة من سكْرٍ! وصارت أوربّة عالماً مخيفاً مرهوبَ الجانب، وتزداد كلَّ يومٍ ثقافةً وعلماً، وفهماً ويقظةً، وتجربةً وخبرةً في كلِّ خيرٍ وشرّ، وتزداد أيضاً نِفاقاً وخبثاً ومكرًا وغَدْراً بالآمنين حيث كانوا في أرجاء عالمٍ كانت تحجبُه عنهم دار الإسلام قروناً طويلة. أما دار الإسلام، فعَلى الايّام وَهَنت قوَّةً طليعتِه المسلمةِ الناشبةِ في قلب أوربّة، وصارتْ داراً محصورةً في الجنوبِ، بعدَ أنْ كانت حاصِرَةً للمسيحية في الشمال. وكذلك بدأت حضارة عتيقة تتضعضَع قُواها وترِث حبالها، وقامت في الأرض حضارة جديدة غذِيت بالدَّم المسفوح، ومُزِجت ثقَافتها بالمكر والغَدْر والدهاء والخبث، تؤزّها نار أحقادٍ مُكَتمةٍ، ثم صارتْ لهيباً يؤجّ أجًّا = حضارة سوف تطبِّق وحه الأرض، وهي بذلكَ كلّه حضارة إنسانيّة عالمية، أليس كذلك؟ ويزيدها إنسايةً وعالميةً أنها جاءت مبشِّرة بدين جديدٍ، عقيدته مبنيَّة على البغضاءِ والحِقْدِ والجَشع والغَدْرِ وسَفْكِ الدماءِ.
وَمعَ هذه الأساطيل الفاجرة، خرجتْ من مَكامنِها أعداد وافرة من رجالٍ يجيدون اللسان العربيّ وألسنةَ دار الإسلام الأخَر، ومنهم رهبان وغير رهبان ٍ، وركبوا البَّر والبحرَ، وزحفوا زَرَافات ووحداناً في قلبِ دار الإسلام: على ديار الخلافة في تركية، وعلى الشام، وعلى مصر، وعلى جوفِ إفريقية وممالكها المسلمة = خرجوا وفي القلوب حميَّة الحقد المكتم، وفي النفوس العزيمة المصَمِّمة، وفي العيون اليقظه، وفي العقولِ التنبّه والذكاء، وعلى الوجوه البِشْر والطَّلاقة والبراءَة، وفي الألسنة الحلاوةُ والخِلابَةُ والممَاذقة، ولَبِسوا لجمهرة المسلمين كل زِيّ: زيَّ التاجر، زيَّ السائح، زيَّ الصَّديق الناصِحِ، وزيَّ العابد المُسْلم المتبتِّل= وتوغَّلَوا يستخرجون كلّ مخبوءٍ كان عنهم من أحوالِ دار الِإسلام، أحوالِ عامتِه وخاصَّتِه، وعلمائه وجهَّاله. وحلَمائه وسفهائه، وملوكه وسوقته، وجيوشه ورعيته، وعبادته ولهوه، وقوته وضعفه، وذكائه وغفلته، حتى تدسسوا إلى أخبار النساءِ في خدورهن، فلم يتركوا شيئاً إلاَّ خَبَروه وعَحَمُوه، وفتَشوهُ وسَبَروه، وذاقوه واستشفّوه. ومن هؤلاءِ، ومن خِبْرتهم وتجربتهم، خرجت أهمُّ طبقةٍ تمخَّضتَ عنها اليقظة الأوربية (طبقة المستسثرقين) الكبار، وعلى علمهم وخبرتهم وتجاربهم، رَسَتْ دعائِم (الاستعمار) ، ورسَخَتْ قواعد (التبشير) كما وصفتُ لك أمرَهم في آخر الفقرة السادسة عشرة = والْتَقَت حَلْقَتَا البِطَان، هذه المرَّة، على دار الإسلام، واسترخَتْ حَلْقتَاة عن المسيحية الشمالية، (انظر أول الفقرة: 14، ص: 38) .
وما هو إلاّ قليل حتى كان تحت يد (الاستشراق) آلاف مؤلَفة من مخطوطات من كتُبِ دار الإسلام نفيسةٍ منتقاةٍ، مشْتراةً أو مسروقةً، موزَّعة مفرَّقة في جميع أرْجاء أوربّة وأدْيِرتها ومَكتْباتها وجَامعاتها، وأكَبَّ عليها (المستشرقون) المجاهدون الصابرون، الذين هجروا دنْيا النَّاسِ المائجة بكلِّ زُخْرُف ومتاع، وعكفُوا بين جُدْرانٍ صامتةٍ مُغْلَقةٍ، وأكداس من الأوراقِ المكتوبة بلسان غير لسانِ أقوامِهم، يَقْضون سحابَة النَّهارِ وزُلَفاً من الليل يَفْرِزونها ورقة ورقةً، وسطراً سطراً، وكلمةً كلمة، بصبرٍ لا ينفَدُ وعزيمة لا تكِلّ، ويَكابدون كُلَّ مشقةٍ في الفَهْم والوقوف على أسرارِ المعاني المخبوءة تحت رموز الألفاظ العربية أو غير العربية في كل علمٍ ومعرفةٍ وفن، ديناً كان أو أدباً أو لغة أو شعراً أو تاريخاً أو علم بلدان، (جغرافية) ، أو طباً أو رياضة أو فلكاً أو صناعاتٍ وآلات، كل ذلك يدرسونه بدقة ونظام وترتيب، وبتعاون كامل بينهم مهما تباعدت بلادهم وأوطانهم. ثم لا تنقطع لهم رحلة في قلب دار الإسلام وفي أطرافها، يجسون ويجربون ويختبرون، ويتعلمون ويسألون، ويجمعون كل خبرة وكل تجربة وكل معرفة، وكل صغير وكبير يعينهم على الدرس والاستفادة، وعلى فهم أسرار هذا العالم الغريب الذي كان بالأمس ممتنعاً على الاختراق قروناً طوالاً.
ولما كانت هذه المخطوطات التي يعكف نفرٌ منهم على دراستها متفرقة في البلاد وحبيسة تحت يد عدد قليل جداً قد يكون رجلاً واحداً في قرية أو دير، عمدوا إلى نشر بعضها مطبوعة، لتكون تحت يد كل دارس مستشرق في أي بلدٍ كان من بلاد أوربة ، ولكي تكون الفائدة أكثر تماماً، والجهد أكثر جدوى، أنشأوا أيضاً مجلات بكل لسان من ألسنتهم، ينشر فيها كل مستشرق نتائج بحثِه ودِراسَتِه، ويعرضُ كلَّ تَجارِبِه وخبرته وملاحظاته، لتكون عَوْناً لكلّ دارس مستشرقٍ وغير مستشرق، وهي مجلاَّت الدراسات الإسلامية أو الشرقية.