Get Mystery Box with random crypto!

كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمع | عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي

كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنى واحد أحيانًا؛ فيسرها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معانٍ من الأشياء ولكن من نفسها ومشيئتها.
وكان خيالها مشبوبًا، يلقي في كل شيء لمعان النور وانطفاءه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، مُلئت بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتة كالنجوم.
ولها شعور دقيق، يجعلها أحيانًا من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل.
وهي ترى أسمى الفكر في بعض أحوالها ألا يكون لها فكر؛ فتترك من أمورها أشياء للمصادفة، كأنها واثقة أن الحظ بعض عشاقها. على أن لها ثلاثة أنواع من الذكاء، في عقلها وروحها وجسمها: فالذكاء في عقلها فهم، وفي روحها فتنة، وفي جسمها خلاعة.
وكنت أراها مرحة مستطارة مما تطرب وتتفاءل، حتى لأحسبها تود أن يخرج الكون من قوانينه ويطيش؛ ثم أراها بعد متضورة مهمومة تحزن وتتشاءم، حتى لأظنها ستزيد الكون همًّا ليس فيه!
وكانت على كل أحوالها المتنافرة جميلة ظريفة، قد تمت لها الصورة التي تخلق الحب، والأسرار التي تبعث الفتنة؛ والسحر الذي يميز روحها بشخصيتها الفاتنة كما تتميز هي بوجهها الفاتن.
وكان حبي إياها حريقًا من الحب, فمثِّلْ لعينيك جسمًا تناول جلده مسٌ من لهب، فتسلَّع هذا الجلد1 هنا وهناك من سَلْخ النار، وظهر فيه من آثار الحروق لهب يابس أحمر كأنه عروق من الجمر انتشرت في هذا الجسم. إنك إن تمثلت هذا الوصف ثم نقلته من الجلد إلى الدم, كان هو حريق ذلك الحب في دمي!
والحب -إن كان حبًّا- لم يكن إلا عذابًا؛ فما هو إلا تقديم البرهان من العاشق على قوة فعل الحقيقة التي في المعشوق، ليس حال منه في عذابه، إلا وهي دليل على شيء منها في جبروتها.
ولقد أيقنتُ أن الغرام إنما هو جنون شخصية المحب بشخصية محبوبه، فيسقط العالم وأحكامه ومذاهبه مما بين الشخصيتين؛ وينتفي الواقع الذي يجري الناس عليه، وتعود الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا إلا بعد أن تمر على المحبوب لتجيء منه، ويصبح هذا الكون العظيم كأنه إطار في عين مجنون لا يحمل شيئًا إلا الصورة التي جُن بها!
وتالله لكأن قانون الطبيعة يقضي ألا تحب المرأة رجلًا يسمى رجلًا، وألا تكون جديرة بمحبها، إلا إذا جرت بينهما أهوال من الغرام تتركها معه كأنها مأخوذة في الحرب. تلك الأهوال يمثلها الحيوان المتوحش عملًا جسميًّا بالقتال على الأنثى، ثم ترق في الإنسان المتحضر فيمثلها عملًا قلبيًّا بالحب.
أحببتها جهد الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكن أسرار فتنتها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا؟
ولقد كنت في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففر إلى ربوة عالية, في رأسها عقل لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حرقتي بالهوى وارتماضي من الحب.
أما والله, إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق.
هي الطبيعة, بجبروتها، وعسفها، وتعنتها. إذا استراح الناس جميعًا قالت للعاشق: إلا أنت!
إذا عقل الناس جميعًا قالت في العاشق: إلا هذا.
إذا برأت جراح الحياة كلها قالت: إلا جرح الحب!
إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا هم العشق!
إذا تغير الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو!
إذا انكشف سر كل شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجب بأسرار القلب!
ولما رأيتها أول مرة، ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المُسْكِر، الذي تُعربد له الروح عربدة كلها وقار ظاهر. فرأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعبّ ويجري.
وكنت أُلَقَّى خواطر كثيرة، جعلتْ كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد فاضت وازدحمت في ذلك الموضع تجلس فيه، فما شيء يمر به إلا مسته فجعلته حيا يرتعش، حتى الكلمات.
وشعرتُ أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرق رقة نسيم السَّحَر، كأنما انخدع فيها فحسب وجهها نور الفجر!
وأحسست في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثرًا حول هذه الفَتَّانة، كأنها محدودة بي من كل جهة.
وخيل إلي أن النواميس الطبيعية قد اختلت في جسمي إما بزيادة وإما بنقص؛ فأنا لذلك أعظم أمامها مرة، وأصغر مرة.
وظننت أن هذه الجميلة إِنْ هي إلا صورة من الوجود النسائي الشاذّ, وقع فيها تنقيح إلهي لتظهر للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة.