Get Mystery Box with random crypto!

الدلاء المكدّرة للنص التراثي مصطلحاته وسياقاته ومنهجه الخاص | قناة عبيد الظاهري

الدلاء المكدّرة


للنص التراثي مصطلحاته وسياقاته ومنهجه الخاص في التعامل معه، وقراءة النص تتأثر بنظر القارئ وفهمه وعلمه، وقد يقع الخطأ في هذه القراءة وبالتالي تتأثر المضامين المستخرجة منها.
وأسباب الخطأ في استقبال النص منها ما يرجع إلى خطأ القراءة نفسها من جهة الفهم والاستيعاب، ومنها ما هو راجع إلى نوع النصوص التي وقف عليها هذا المتلقي، وارتهانه لها كمراجع معتمدة كافية في التصور الصحيح، ولا يكون الأمر كذلك.

وأكثر القراءات الاستشراقية والحداثية للتراث، لا تسلم من سوء الاستقبال للنص للتراثي، وسأبين هنا أمثلة للخطأ الثاني وهو ما يرجع إلى نوع النصوص المعتمد عليها.

فهذا جورج مقدسي يفسر سبب قلة اعتناء المستشرقين بالمذهب الحنبلي من خلال بيان الأثر الجغرافي والسياسي فيقول :"إن إسلام القرن التاسع عشر كان يتمثّل في أعين أوروبا بصورةتركياوكان تركيا ووهابيو العربية السعودية على خلاف، كان الأتراك يصفون الوهابيين بالهراطقة"، ثم بعد ذلك ينبه جورج مقدسي إلى معنى آخر، كان سببا في سوء استقبال النص، وهو قلة أتباع المذهب الحنبلي حين ذاك مقارنة بالمذاهب الأخرى، وهذا الذي دعى كارلبروكلمان في تأريخيه للأدب العربي إلى ذكر المذاهب الفقهية الثلاثة، وجعل المذهب الحنبلي مذهبا هامشيا، ثم يقول جورج :"إن قلة أتباع المذهب الحنبلي بالنسبة إلى بقية المذاهب كانت إذن مصدر أفكار خاطئة عن هذه المدرسة، مما أعطى سندا للمفهوم السائد حول الحنبلية باعتبارها قد تجمدت على هامش السنية"، ثم أشار أيضا إلى معنى آخر ساهم في تشوه النظرة إزاء الحنابلة وذلك باعتماد كثير من المستشرقين لكتاب التاج السبكي في الطبقات ككتاب معتمد في نقل التراجم، وهو المعروف بموقفه الحاد من الحنابلة ورميهم بالتجسيم وغيره.
وهذه التحليلات التي ذكرها مقدسي في كتابه "الإسلام الحنبلي"، وإن كان يمكن مناقشة بعضها، إلا أنها في الجملة تشير إلى سبب من أسباب خطأ التصور.

لكن هل هذا الاستقبال الخاطئ للتصورات أمر جديد؟ لا، ليس كذلك، فهذا ابن تيمية ينتقد مصادر أبو الحسن الأشعري حول مذهب أهل الحديث، فهي مصادر وسيطة وضعيفة "يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي، وبعض من أخذه عنه من حنبلية بغداد ونحوهم" كما يقول، ثم يشبه هذا التلقي بقوله :"وهو يشبه من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد تفصيلا، وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا، لما نقله الناس عن التوراة والإنجيل، وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه…بالنسبة إلى ما ذكرونه من خلاف المذهب الآخر، فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة". [منهاج السنة ٢٧٧/٥-٢٧٩].

وبصورة أدل وضوحا لهذا المعنى نضرب مثالا بشخصية مؤثرة كشخصية ابن سينا، فقد كان تصورات ابن سينا عن المذاهب الإسلامية مرهونة بما تعلمه من أبناء جنسه، فيقول ابن تيمية عن المصادر التي استقى منها علمه بالإسلام :"فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين، كالإسماعيلية" [الرد على المنطقيين 183]، ثم يبين ابن تيمية أن هذه الطائفة التي أخذ عنهم ابن سينا فيهم من الانحرافات العلمية ما جعل جماعة كبيرة من أهل العلم يذهبون إلى تكفيرهم، كالباقلاني وعبدالجبار والغزالي وابن فورك وغيرهم، فكيف ستكون تصوراته إذن هو عن الإسلام!

وفي مقارنة لطيفة يظهر فيها أثر المصادر العلمية التي يستقي منها الناظر علمه، يقارن ابن تيمية بين الفلاسفة الإسلاميين وأثر مصادرهم في قربهم وبعدهم من الحق، فيقول :"فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده، فالفارابي لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون...وغير هؤلاء ألوان أخر، وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل الملل، فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة، كابن سينا وأمثاله، فكلامه لون، ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركات وابن رشد فكلامه لون آخر، أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا". [درء التعارض 247/6].

هذا المبحث المشوق في تتبع مصادر النظار والباحثين وبيان أثر ذلك في النتائج التي يخرجون بها، يفتح للباحث بابا من العلم، يساهم فيه بتصحيح جملة من التصورات الخاطئة، وفي نفس الوقت يحثنا نحن على المساهمة في تصحيح استقبال الآخرين لنصوص التراث، بما يحفظ مكانتها ويعزز قيمتها.