2022-06-01 10:40:08
قاعدة في علاقة الأمراض بالغيبيات!
.
الله تعالى بني الدنيا على أسباب، ومن الأسباب ما هو ظاهر نعلم تعلقه واقترانه بالمسبب ، ومنها ما هو خفي لا نعلم وجه ارتباطه المباشر بالمسبب.
فالإنجاب مثلا سببه الظاهر التقاء الختانين، وزيادة الرزق سببه الظاهر السعي والتجارة والعمل .. وسببهما الخفي : الاستغفار ، كما جاء في قوله تعالى (فقلت استغفروا ربكم إنه غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ..) ، ومثل هذا كثير في القرآن والسنة.
.
وعقيدتنا أنه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ، وأن الأخذ بالأسباب مجرد عبودية وتنفيذا للأمر الإلهي بالأخذ بها ، دون الاعتقاد بنفع شيء أو ضرره إلا بالله.
إذا فهمت هذا = علمت أن الكثير من الأمور ذكرت له الشريعة أسبابا باطنة ، لكننا لا يمكن تعليق شيء عليها ولا الجزم بها لخفائها ولكونها من الغيب الذي يعلمه الله .. فلا نقول مثلا: رزقي قليل لقلة استغفاري ، ولا نقول : لم أنجب لقلة استغفاري، لأن عمل الاستغفار وقبوله = غيب ، بل الواجب تعليق الحكم على الظاهر مما نعلم.
ومع هذا لا يجوز القول أيضا بأن الإنجاب لا علاقة له بالاستغفار وزيادة الرزق لا علاقة له بالاستغفار ، فهذا رجم بالغيب وتكذيب للأسباب الخفية التي ربما تكون هي السبب البعيد لعدم عمل الأسباب الظاهرة .. لا يجوز ذلك أدبا مع الله واحتراما لأنفسنا ، لأن نفي السببية الخفية المجعلولة من الله تحتاج لدليل .. وحيث لا دليل فلا نتألى ولا ندعي.
.
والخلاصة: لا ينبغي الخلط بين مقام الإثبات والنفي .. فعند إثبات الرزق ينبغي أن نعلقه على الأسباب المعلومة لنا الظاهرة ، لكننا في الوقت نفسه لا نجزم بعدم عمل الأسباب الخفية لعدم علمنا بعملها أو عدم عملها ..
هذا هو الموقف المتزن من هذه القضية.
إذا فهمت ذلك علمت مجازفة كثير من الأطباء والاخصائيين النفسيين عندما يقولون : "المرض النفسي لا علاقة له بالسحر ولا الحسد ولا الجن" ، لأن هذه الأمور ثبتت بالشريعة وثبت في العقل والواقع إمكان عملها .. فنفي تأثيرها بالكلية موقف غير علمي ولا شرعي ..
غير علمي ؛ لأنك تجزم بنفي سبب لا تعلم أصلا كيف يعمل ، فأنت حين تقول ذلك ترجم بالغيب.
وهو لا شرعي ؛ لأنك تنفي سببية هذه الأمور التي أثبتت الشريعة لها مدخلا!
.
فالموقف المتزن إذا في مسألة كالاكتئاب أو مرض الذهان أو نحوها من الأمراض النفسية العصبية = أن ننسب الأمر إلى أسبابه المعلومة ، فنقول : هذا بسبب خلل في الوصلات العصبية في المخ مثلا ، هذا جيد .. وينبغي الوقوف على هذا الحد لا نتجاوزه ، بل ينبغي التواضع فتقول: هذا هو المعلوم لنا حتى الآن ، فالحكم بأكثر من هذا بنفي أسباب لا نعلم حقيقتها = مجازفة يتنزه عنها العقلاء .. لأن معرفة بعض الأسباب لا ينفي معرفة غيرها، ولا ينفي وجود أسباب أبعد..
لكننا شرعا وواقعا -في الوقت نفسه- لا نعلق المرض النفسي على الأسباب الخفية إلا إن ملكنا الدليل والبرهان ، وإلا سكتنا واكتفينا بما نعلم نفيا وإثباتا.
أي أن الموقف الحق = ألا نفعل كبعض الأطباء المجازفين بنفي عمل الأسباب الخفية ، ولا نفعل كبعض المتدينين الناسبين كل شيء للأسباب الخفية ، بل لا نتكلم نفيا ولا إثباتا إلا بمقدار ما نعلم ، وما نملك عليه دليلا من الخبر أو الحس والتجربة أو العقل ، عملا بقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم).
والله أعلم.
417 viewsذاكر الحنفي, 07:40