2020-11-17 00:51:42
ّع تمام ما ورد من أحاديث التسعير والاحتكار هو أَنَّ غلاء الأسعار يكون على صورتين:
+ الصورة الأولى: ما يكون ناشئاً من عوامل طبيعية، ففي زمن وفرة الغيث ينمو الزرع، ويكثر المحصول، فمن الطبيعي حينئذٍ أنْ تنخفض الأسعار، وفي زمن الجدب، يقلّ الزرع أو ينعدم، فمن الطبيعي أنْ يقلّ المحصول، فترتفع الأسعار؛ لكثرة الطلب وقلّة العرض.
+ الصورة الثانية: ما يكون ناشئاً من فعل البشر، كما هو الحال عند الاحتكار وتلقّي الركبان (وذلك بأنْ يقوم شخص بتلقي أصحاب الأمتعة التي يحملونها معهم لبلد أخر، فيقوم هذا الشخص بشراء ما معهم قبل دخولهم البلد التي يتوجهّون إليها، وقبل معرفتهم سعر هذا المتاع).
وقد التفت الشَّيْخ الصدوق (ت: 381 هـ) رحمه الله إِلَى هذا التقسيم في كتاب التوحيد؛ حيث يقول: (الغلاء هو الزيادة في أسعار الأشياء حتى يباع الشيء بأكثر مما كان يباع في ذلك الموضع، والرخص هو النقصان في ذلك، فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها فإن ذلك من الله عز وجل، ويجب الرضا بذلك والتسليم له، وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء وكثرتها من غير رضى منهم به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلو الطعام لذلك، فذلك من المسعر والمتعدي بشري طعام المصر كله، كَمَا فَعَلَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ كَانَ إِذَا دَخَلَ الطَّعَامُ الْمَدِينَةَ اشْتَرَاهُ كُلَّهُ فَمَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله فَقَالَ: يَا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ إِيَّاكَ أَنْ تَحْتَكِر).
⊙ وعليه، فالنصوص المتقدّمة ناظرةٌ إِلَى الصورة الأولى، ومعناها حينئذٍ أَنَّ تلك الأسباب الطبيعية لغلاء الأسعار وارتفاعها من الله تبارك وتعالى، وإلى هذا تشير رواية التوحيد المتقدمّة في أَنَّ الله وَكَّلَ بِالسِّعْرِ مَلَكاً يُدَبِّرُهُ بِأَمْرِهِ، والمقصود تدبير أسبابه من الغيث والجدب، وليس لنا شأنٌ في ذلك، بل علينا أنْ نقوم بالعوامل المساعدة على توفّر أسباب الرفاه في المجتمع، والتي منها الإنابة إِلَى الله تعالى، والتقوى، والدعاء، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96].
⊙ وأمّا ما كان من قبيل الصورة الثانية، فنلاحظ أَنَّ النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام قد حاربوه أشدّ المحاربة. ويمكن تأييد ذلك بالروايات التالية:
ـ في عهد مالك الأشتر رحمه الله: فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ.
ـ ما رواه في التهذيب بسند يمكن اعتباره على بعض المباني الرجالية: عن حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ فُقِدَ الطَّعَامُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله فَأَتَى الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ فُقِدَ الطَّعَامُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا عِنْدَ فُلَانٍ فَمُرْهُ يَبِيعُ قَالَ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ يَا فُلَانُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ فُقِدَ إِلَّا شَيْئاً عِنْدَكَ فَأَخْرِجْهُ وَبِعْهُ كَيْفَ شِئْتَ وَلَا تَحْبِسْهُ.
ـ وفي المعتبر عن عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: الْحُكْرَةُ فِي الْخِصْبِ أَرْبَعُونَ يَوْماً وَفِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ يَوْماً فِي الْخِصْبِ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ وَمَا زَادَ فِي الْعُسْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاحِبُهُ مَلْعُونٌ.
ـ وعن عَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام وَقَدْ يَزِيدُ السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ كَمْ عِنْدَنَا مِنْ طَعَامٍ قَالَ قُلْتُ عِنْدَنَا مَا يَكْفِينَا أَشْهُراً كَثِيرَةً قَالَ أَخْرِجْهُ وَبِعْهُ قَالَ قُلْتُ وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ طَعَامٌ قَالَ بِعْهُ قَالَ فَلَمَّا بِعْتُهُ قَالَ اشْتَرِ مَعَ النَّاسِ يَوْماً بِيَوْمٍ وَقَالَ يَا مُعَتِّبُ اجْعَلْ قُوتَ عِيَالِي نِصْفاً شَعِيراً وَنِصْفاً حِنْطَةً فَإِنَّ الله يَعْلَمُ أَنِّي وَاجِدٌ أَنْ أُطْعِمَهُمُ الْحِنْطَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحْسَنْتُ تَقْدِيرَ الْمَعِيشَةِ. وهذا الرواية بحاجةٍ إِلَى وقفةٍ طويلةٍ معها، لنرى أين نحن من تعاليم أهل البيت عليهم السلام.
⊙ أمّا مسألة التسعير، فباعتبار أَنَّ الناس مسلّطون على أموالهم، فلهم أنْ ينقلوها إِلَى غيرهم بما شاؤوا، إِلَّا إذا كان بسعرٍ مجحفٍ في حقّ الناس، ولأجل ذلك التزم فقهاؤنا بلزوم التسعير بسعرٍ لا يصل إِلَى حدّ الإجحاف؛ مستندين في ذلك إِلَى أَنَّه مع الإجحاف لو لم يؤمر بالنزول إِلَى حدٍّ ينتفي معه الإجحاف؛ لانتفت فائدة إجبار
781 views21:51