Get Mystery Box with random crypto!

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَ | السبيل

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} (النساء: 63).

غاية المنطق القرآني أن يَبلغ الخطابُ القلوب، وأن يصل إلى أعمق نقطة فيها. وهذه الآية تتحدّث عن المنافقين الذين زعموا الإيمان ولكنّهم {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به}، وقد صدّوا عن دعوة التحاكم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم تصيبهم مصيبةٌ جرّاء ما اقترفوا فيزعمون أنّهم أرادوا بتحاكمهم إلى الطاغوت الإحسانَ والتوفيقَ بين المتخاصمين وهم كاذبون، فهم أهل مماحكة لا يعتبرون بالنِّقَم، ولهذا أُمِرَ الرسول صلى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم فيما جاؤوا من أجله وعدم قبول عذرهم أو محاسبتهم عليه، وأُمِرَ مع ذلك بوعظهم وأن يقول لهم في أنفسهم {قولًا بليغًا}.

والبلوغ: الوصول، والبليغ في الكلام هو الذي يبلغ به ما يريد، والقول البليغ كلام يتغلغل في النفوس ويصل إليها بخطاب الحقّ. واللافت في الآية أنّ الله عزّ وجلّ لم يأمره بجدالهم ولا إفحامهم. لم يقل له: وقل لهم في أنفسهم قولا مُفحمًا أو مُلزِمًا؛ لأنّ غاية الخطاب القرآني هي بلوغ القلوب بمعاني الهداية التي يحملها، وفي اللحظة التي تصل كلمات الحقّ بكامل نصاعتها ووضوحها إلى القلوب تتحوّل المهمّة إلى أصحاب تلك القلوب وما يفعل الله بهم بعدله وعلمه بأحوالهم. وقد أخبره اللهُ عزّ وجلّ في مَطْلَع الآية قائلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، ولهذا فليس لنا نحن البشر إلا إبلاغ الحقّ لأصحابه.

ومفهوم البلاغة كما يقدّمه القرآن مفهوم عظيم ظُلم كثيرا حين صارت البلاغة في حسّ المتأخّرين أنماطًا تعنى بالأساليب اللغوية أكثر من عنايتها بالمضمون، ونوعًا من الكلام بعيدًا كل البعد عن مخاطبة العقل، فهو إلى مخاطبة الذائقة الأدبية والعواطف أقرب، ولهذا تم عزله عن "الخطاب العقلي"، وحلّت مكانه في هذا الخطاب الأساليبُ المنطقية الجافّة، والتي تقدّم حجج الحقّ بخطاب ذهنيّ أحاديّ، يطرق الأذهان بمعاظلاته ولكنّه لا يلامس القلوب فضلا عن أن يبلغ أعماقها ويتغلغل فيها.

إنّ المنطق القرآني منطقٌ يحترم كيان الإنسان، وهو يعلّمنا بذلك أن نرجو في حجاجنا الهداية للناس أكثر مما نرجو الإفحام، وفي هذه الآية كان المثال شديد التطرّف، فهذه نفوس مريضة شُوّهتْ فِطَرها لمنافقين متلوّنين، يتذبذبون بين الباطل ودعاوى اتباع الحقّ وهم كاذبون، ولهذا فقد يظنّ ظانٌّ أنّ الواجب تجاههم هو الخطاب الشديد المفحم والجواب القارع الفاضح لأكاذيبهم وخداعهم. ولكنّ الله عزّ وجلّ يأمرُ رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك؛ يأمره بوعظهم ومخاطبتهم بقول بليغ مؤثّر، فكيف بمن هم دونهم في رتبة الخلاف والابتعاد عن الحقّ ممن نخاطبهم ونحاورهم ونجادلهم؟

يريد الله منّا أن نظلّ متمسّكين بأصول رسالتنا القائمة على الحقّ والصدق والعدل، فنحن لا نرجو لهذه النفوس التي نخاطبها، أيّا كان دينها أو مذهبها أو فكرُها، سوى الهداية. ومهما بدتْ تلك النفوس مراوِغةً زائفة، عليها سيما الخداع والنفاق، فهم في النهاية بشر قد تنجيهم من جحيمهم الدنيوي هذا كلمةٌ بليغة تطرق القلب بسلاسة، متجاوزةً ضجيج الجدل ورغبات الإفحام والإلزام.
والقول البليغ خطاب عقليّ يُمسك بتلابيب النفس من كل جانب، فيخاطب الذهن في الوقت الذي يؤزّ الوجدان، وينسرب في الحواسّ في الوقت الذي يقدّم فيه المعاني ثمارًا يانعة للفكر، ويسبر أغوار النفس الإنسانية ليجد له مدخلا إلى القلب الذي فطره الله على حبّ الحقّ، عساه يجد بقايا من تلك الفطرة لم تمتْ بعد، فتنتفض حين تُلامسها أنوار الحقّ وينهار ركامُ الجهل والغفلة والعناد والإعراض، ويخشع القلبُ للرحمن من موقع الشعور الداخلي الصادق بالحقّ، لا من موقع الجدل الحامي الذي يرهق النفس ويبقيها على حالة الاستنفار والدفاع عن عقائدها خشية الهزيمة في معركة الجدل!