Get Mystery Box with random crypto!

البناء النبوي للهوية الإسلاميّة في نفوس الأمة حرص النبي ﷺ على | السبيل

البناء النبوي للهوية الإسلاميّة في نفوس الأمة

حرص النبي ﷺ على تميُّز المسلمين عن غيرهم حتَّى في المظهر العامّ، سواءٌ على مستوى الفرد أو المجتمع ككُلٍّ، إذ وردت أدلَّة كثيرة حول مسألة النهي عن التشبُّه بالكُفَّار ومسايرتهم، فهذا التشبُّه الظَّاهري له أثَرُه الذي قد يمتدُّ إلى موافقتهم فيما هو أشدُّ من اعتقاداتٍ وتشريعاتٍ، لأجل ذلك، أكثر النبي تنبيه أصحابه إلى التنوير الحقيقي وهو نور الوحي، وربَّى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة المحيطة بهم يحتاجونكم أضعاف ما تحتاجونهم، فهم إنما يملكون الوسائل، وأنتم تعرفون الغايات، وشتّان بين منزلة الغاية والوسيلة.

وكان ﷺ يستثمر الأحداث والمواقف ليوضّح ويُبيِّن ويكشف عن هويّة الإسلام الخالصة المتفردة، التي لا يمكن لها أن تُستَمَد من حضارة أخرى، أو تستعير منها المنطلقات والغايات.

وكان أظهر ما ثبّته الني في الصدور: متاعيّة الدُّنيا ومركزيّة الآخرة، فحين بكى عمر من بساطة بيت رسول الله بالنسبة إلى قصور الحضارات الأخرى، ربَّاه النبي بحزم على هذا المعنى، حيث رُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دخلتُ على رسولِ اللهِ ﷺ وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا!). [صحيح مسلم]

هذا الحوار العظيم بين النبي ﷺ وعمر من أدق المشاهد على ثبات مركزيّة الآخرة في الهويّة الإسلاميّة، فحين عبَّر عمر عن تألمه وهو يقارن المظاهر الدنيويّة في الحضارة الفارسيّة والروميّة بمحدودية المجتمع الإسلامي، أعاد ﷺ تذكيره بمركزية الآخرة، فقال له: (أما ترضى أن تكون لهم الدُّنيا ولنا الآخرة)، وفي رواية أخرى في الصحيحين أن النبي قال له: (أفي شك أنت يا بن الخطاب، أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).

وحين أُهدي إلى النبي هدية أعاد ذات الدرس عليهم، فعن البراء بن عازب، قال: أُهديَ إلى النبي ﷺ سَرَقةٌ من حرير، فجعلَ النَّاس يتداولونها بينهم ويعجبُونَ من حُسنها ولينها، فقال رسول اللَّه ﷺ: أتعجَبُونَ منها؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: والذي نفسِي بيده، لمناديل سعد في الجنَّة خيرٌ منها. [صحيح البخاري]

واشتدَّ ﷺ في مخالفة الكفار والمشركين في كل مجال براءةً منهم، وإبرازًا للهويّة الإسلاميّة المتفردة، ومثال ذلك أنَّ رسول الله لمَّا خرج إلى خيبر، مرَّ بشجرة للمشركين يُقالُ لها: ذاتُ أَنْواطٍ، يُعلِّقونَ عليها أسلحتَهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].

وكذلك لمّا اهتم النبي بشأن الصلاة، فأخذ يشاور أصحابه في كيفيّة إعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وقد كان الناس في أولِ أمر الصلاة يتَّجهون إلى المسجد إذا جاء وقتها بلا أَذان ولا نداء، فقيل له انصُب رايةً عند حضور الصلاةِ فإذا رأوها آذنَ بعضُهم بعضًا، فلم يعجبْه ذلك، وذكروا له القُنْعَ (يعنى البوقَ)، فلم يعجبه وقال هو من أمرِ اليهودِ، فذُكر له الناقوسُ فقال هو من أمرِ النصارى. [فتح الباري لابن حجر، إسناده صحيح]

يقول ابن تيميّة في كتابه [اقتضاء الطريق المستقيم،1/356]: “هذا يقتضي كراهة هذا النَّوع من الأصوات مطلَقًا في غير الصَّلاة أيضًا؛ لأنَّه من أمر اليهود والنَّصارى؛ فإنَّ النَّصارى يضربون بالنَّواقيس في أوقات متعدّدة، غير أوقات عباداتهم، وإنَّما شعار الدِّين الحنيف الأذانُ المتضمّن للإعلان بذكر الله، الذي به تُفتَح أبواب السَّماء، فتهرُب الشَّياطين، وتَنزِل الرَّحمة”.

وأخبر النبي أصحابه عن المكانة جوهريّة المفهوم الحبِّ بالله والبغض فيه والموالاة والمعاداة لأجله، فعن عبد الله ابن عباس أنه ﷺ قال: (أوثقُ عُرَى الإيمانِ: الموالاةُ في الله، والمُعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبُغضُ في اللهِ عزَّ وجلَّ) [صحيح الجامع]، فشعور المسلم وموقفه من الآخر مبنيٌ على الهويّة الدينيّة، لا يتجاوزها، وذلك يناقض الخِطاب الإنساني الغربي، الذي يدعو إلى رفع قيمة الإنسان وحبِّه ونصرته بصرف النظر عن دينه أو ميوله وإلقاء كامل المعجم المفاهيمي للبراء في ذمة التاريخ، وهذا تناقض داخلي؛ فإنَّ أي تبنٍّ للحب في الله يلزم منه البغض بالله، ولا يمكن فصلهما.