Get Mystery Box with random crypto!

لا يمكن الجزم بأنّ الله عزّ وجلّ أرسل زلزالًا ما في مكانٍ ما م | السبيل

لا يمكن الجزم بأنّ الله عزّ وجلّ أرسل زلزالًا ما في مكانٍ ما معاقبةً لعباده على ذنوبهم في ذلك المكان، فهذا تألٍّ على الله سبحانه. ما يمكن الجزم به أنّ الزلزال آيةٌ من آيات الله، وأنّه يرسله هو وغيره تخويفًا لعباده، وهو يدخل في باب التذكير، والتذكير ليس منصرفًا لمن تأذّوا بهذه الظواهر الطبيعية فحسب، بل هو منصرف كذلك للأحياء الآمنين الغافلين، ولعلّهم الأولى بالاتعاظ والاعتبار.
أبرز قيمة ينبغي الخروج بها من كل ما يحدث في هذا العالم هي قيمة "الاعتبار"، الاعتبار الذي يذكّرنا بالله الحيّ القيوم الذي لا يموت، وبأنّ هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار بقاء، فنذكره حقّ ذكره، ونعبده حقّ عبادته، ونعوذ به وحده، ونلجأ إليه ونلوذ بحماه في السرّاء والضرّاء.
هذا الاعتبار هو البلسم الأول الذي يخفف عن قلوب أهلنا المفجوعين الذين أصابهم البلاء العظيم في تركيا وسوريا. وكثيرا ما نغفل عن هذه النقطة ونظنّ بأنّ الحديث في آفاق هذا الاعتبار "ليس وقته"، وأنّ الواجب الآن هو تقديم المدد والعون والدعم المادي للناجين والتكاتف لإنقاذ العالقين والدعاء لهم فحسب.
يبدو أنّنا عن غير قصد منّا قد تأثّرنا بالنزعات الإنسانية التي تضع الإنسان والدنيا في المركز، فظنّنا أنّ كل خطاب ديني مقبول في هذه اللحظات فهو خطاب التخفيف والتربيت على القلوب المفجوعة، أما لو تجاوز ذلك نحو الوعظ والاعتبار وإعادة التذكير بحقيقة الحياة الدنيا ومفاهيم الابتلاء والتخويف وصفات الله القويّ العزيز الجبّار.. فهو خطاب مرفوض، ثم نشوّهه ونجعله اتّهامًا للمنكوبين تحت الأنقاض بأنّهم عوقبوا بذنوبهم؛ لينفرَ النّاسُ عن خطاب الوعظ والاعتبار!
ولو عقِلَ هؤلاء، لوجدوا أنّنا معشر المسلمين خير من واسى في الزلازل، وأنجع المواساة هو ما نملكه ممّا ليس عند غيرنا من أهل الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة من خَلاق، وهو إيماننا بالحجم الحقيقي للدنيا. ولقد كنت أتصفّح ما يكتبه أهلنا المنكوبون بأحبابهم وأطفالهم فأجد في كلامهم بلسمًا لي أنا الآمن في داري! لقد كتب رجل من المسلمين لا أحسبه إلا قد أضاء نورُ الإيمان قلبَه عن أطفاله الثلاثة الذين توفّاهم الله في الزلزال، فقال إنّهم أعظم هبات المولى وإنّه سبحانه قد استردّهم إليه، وله منه كل الحمد والرضا بقضائه، وإنّه اليوم أكثر شوقًا للجنّة لأنّه رأى جزءًا منها وهم عصافيره الصغار. فهذا رجل قد نوّرَ الله قلبَه، وبه تحيا القلوب ويُضيء العالَم!
وإذا كانت نجدة الأنفس مطلوبًة في هذه الأوقات بأقصى درجة، فإنّ نجدة القلوب لا تقلّ عنها أهمية، بل هي الغاية العليا، وهي النافعة الباقية إلى الآخرة بإذن الله. والأحداث التي تموج بالمسلمين هي خير توقيت لإعادة التذكير بحقائق هذا الدين ورسالة الإنسان في الحياة الدنيا. وهذا التذكير هو أنفع دواء لتسكين القلوب وشحنها بالإيمان والطاقة ومداواتها من الجزع واليأس والألم والقنوت.
والمسلمون في سوريا ليسوا بحاجة إلى تذكير أمثالي، بل نحن نتعلّم منهم ونتقوّى بهم. ولكنّ المسلمين أيضًا ليسوا بحاجة إلى من ينفّرهم عن خطاب التذكير والاعتبار بأساليب تجييشية غير موفّقة تقول للناس: دعكم من الوعظ والتذكير والاعتبار بآيات الله وانصرفوا إلى المساعدة والعون والإيواء!
فالوعظ والتذكير والاعتبار تنسجم في الرؤية الإسلامية مع النجدة والعون والتكاتف، كلاهما ينطلقان من نفوس مؤمنة تتحلّى بقيم الإسلام، ولا يرى تعارضَ الأمرَيْن إلا من انساق مع الخطابات الإنسانية الغافلة عن دور الدين في حياة الإنسان وحضور الله عزّ وجلّ في جميع تفاصيل الحياة وأحداثها. ولعلّ هذا عن غفلة منهم تحت وطأة الكارثة، فقد فقدوا أحبابهم وذويهم، والله المستعان وعليه التكلان.