Get Mystery Box with random crypto!

العلمانية المتدينة والتدين العلماني/11 علي المؤمن من أهم | كتابات علي المؤمن

العلمانية المتدينة والتدين العلماني/11
علي المؤمن

من أهم أدلة استحالة تطبيق العقيدة العلمانية والمذهب الليبرالي في حياة المسلمين الاجتماعية والسياسية، هو الحضور القوي للشريعة الإسلامية في هذه الحياة، بنسب متفاوتة، ووفق كل بلد ومجتمع، وهو ما يجعل دساتير البلدان الإسلامية ومنظوماتها القانونية تراعي حضور الشريعة الإسلامية على كل الصعد، بل حتى النخب العلمانية، العسكرية والمدنية، التي سيطرت على حكم أغلب البلدان الإسلامية، ظلت مجبرة على التوليف بين أفكارها العلمانية وبين شريعة الإسلام التي يدين بها أغلب الشعب. ولم يقتصر هذا التوليف على النظام السياسي وحسب، بل يشتمل على مجالات التشريع والقضاء والتنفيذ أيضاً، وخاصة مع وجود الأحزاب والجماعات الإسلامية النافدة شعبياً، والحاضرة في مفاصل الدولة، ولاسيما البرلمان. وأدى ذلك الى محاولات نوعية وكمية للتصالح بين الأفكار المتعارضة، من أجل إرضاء أصحابها، كونهم جميعاً شركاء في الوطن وإدارته.

ويرتكز هذه التصالح العشوائي على قاعدة التوليف بين مرجعية الشريعة الإسلامية والمرجعيات الوضعية في مجال التشريع وفي رسم مسار الاجتماع السياسي، وهي أحد أهم صور الإسلامية الإنتقائية أو العلمانية الإنتقائية. وتعد أغلب الأنظمة السياسية للبلدان المسلمة نماذج تطبيقية لهذه الفكرة، فهذه الأنظمة ليست علمانية، لا شكلاً ولا مضموناً، وليست إسلامية أيضاً؛ بل أنظمة هجينة في عقيدتها السياسية، الى مستوى التعارض في تشريعاتها ونظمها الإدارية والقضائية، أي أنها علمانية بنسبة معينة وإسلامية بنسبة أخرى، ليس في جانب الممارسة وحسب، بل في بنى النظام السياسي الفكرية والقانونية والإدارية أيضاً. ويعود هذا الإرباك في بنى النظام السياسي في البلدان المسلمة الى طرائق استيراد المسلمين للأفكار، أو تصديرها اليهم من الإستعمار قسراً، كالعلمانية والليبرالية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والمجتمع المدني والعنصرية القومية والدولة القومية وغيرها؛ إذ دخلت هذه الأفكار وعي المسلمين بطرائق يغلب عليها الطابع الإنفعالي والمزاجي، واختلطت بإرثهم التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ الأمر الذي أفرز أفكاراً ونظماً مشوهة لا تشبه أياً من تلك الموجودة في الغرب أو الشرق، برغم أن النخب المحلية تطلق على نتاجاتها الهجينة المسميات الغربية والشرقية نفسها.

وقد كان نتاج الخلط الانفعالي بين الايديولوجية الإسلامية والايديولوجيات الفكرية والفلسفية التي تنتمي الى مناخات اجتماعية تاريخية مختلفة؛ ظهور مخلوقات غريبة تحمل عناوين إسلامية وعلمانية في الوقت نفسه، كالديمقراطية الإسلامية، والماركسية الإسلامية، والمجتمع المدني الديني، والإسلام التنويري، وصولاً الى ظهور رجال دين ملحدين، ومتدينين شيوعيين. وهو انعكاس للفوضى المعرفية التي تعيشها الدولة والنخب السياسية والثقافية. ويعبِّر هذا التهجين الإنفعالي عن أكبر ألوان العجز، بعد أن قرر الإسلاميون والعلمانيون تطويع الواقع الإسلامي لمذاهب فكرية لم يفرزها، ونظام اجتماعي لم تنتجه بيئة المسلمين، وذلك ليحقق الطرفان هدف الشراكة السياسية القسرية والتحاصص في القواعد الفكرية للدولة ونظام الحكم من جهة، ولكي يتمظهر الإسلاميون بالواقعية وبمظاهر التحضر والمدنية على النمط الايديولوجي الغربي، ويبعدون عن أنفسهم شبهة الانغلاق والتعصب والتطرف والتخلف من جهة أخرى.

والحقيقة أن كل هذا الجهد التوفيقي البراغماتي لا يمكنه بناء أسس رصينة لدولة متماسكة فكرياً، ولا حكومة قوية، فضلاً عن أنه لا يقنع الغرب ولا يرضيه، لأن النخب السياسية والثقافية الغربية تدرك مدى التشويه الذي تلحقه عمليات التهجين الانفعالية تلك بفكره ونظمه، ولذلك؛ لا يعترف الغرب بعلمانية حكومات البلدان المسلمة ولا ديموقراطيتها ولا اشتراكيتها. في حين أن الغرب في اعتناقه الليبرالية العلمانية؛ إنما يلتصق بمناخاته وبحقائقه الموضوعية، وينسجم مع واقعه؛ فالعلمانية الحقيقية التي أنتجتها البيئة الغربية بفعل تراكمات فكرية تاريخية وواقعية لازمت الصراع بين الأنظمة الثيوقراطية الكنسية والاستبدادية الفردية من جهة، وخصومها من جهة أخرى، تعبّر عن فصلٍ شبه كاملٍ بين العقيدة الدينية، وبين الدولة وتشريعاتها ونشاطاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا الفصل تحوّل من أفكار وتشريعات إلى مؤسسات ونظم صارمة على الأرض، وبالتالي؛ فالدولة الغربية العلمانية حيادية بين الدين (المسيحي) واللادين في كل المجالات.

أما علمانية أنظمة البلدان المسلمة، فهي علمانية من طراز خاص، يمكن أن نطلق عليها مصطلح الأنظمة «العلمانية المتدينة» أو «الإسلامية المعلمنة»، لأنها أنظمة ليست حيادية بين الدين واللادين، كما هو مقتضى العلمانية، بل أنها أنظمة متدينة في بنيتها؛ فهي تولي الدين أهمية كبيرة، ليس على صعيد النشاط الاجتماعي، بل على صعيد حركة الدولة وتشريعاتها ومؤسساتها أيضاً، أي أنها لا تفصل بين الدين