Get Mystery Box with random crypto!

يظن صاحب الشبهة أن أول عمل قام به البخاري هو تصنيف (صحيح البخا | فتاوى د. يوسف الرخمي

يظن صاحب الشبهة أن أول عمل قام به البخاري هو تصنيف (صحيح البخاري)، ولم يكن له أي اشتغال بعلم الحديث قبل ذلك، وهذا الفهم خطأ؛ فالبخاري بدأ في طلب الحديث في سنّ مبكرة جدا وهو في سن العاشرة كما ذكر ذلك (الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد)، وأصبح من العلماء الكبار قبل تأليف كتاب الصحيح، وسافر إلى البلدان وجمع أكثر الأحاديث قبل تأليفه للصحيح، ويكفي أن تعرف أن البخاري ألّف قبل كتاب الصحيح كتاب (التاريخ الكبير) في 11 مجلدا، وهو كتاب في تراجم الرواة، والتعريف بكل واحد منهم، جمع فيه حوالي (4000 راو)، يذكر في كل راو من روى عنه، وعمن روى هو، وربما نبه على بعض أحاديثه ومروياته، وربما أشار إلى بعض العلل فيها، فلم يكتب البخاري كتابه الصحيح إلا بعد أن اشتدّ عوده واستوى، وأصبح كامل الأهلية لدراسة وفحص الأسانيد والأحاديث.

حين نتكلم عن الإمام البخاري فنحن لا نتكلم عن شخصية عادية، بل نتكلم عن أعجوبة من أعاجيب الزمان في الذكاء وقوة الحفظ، ويكفي برهانا على ذلك قصته مع أهل بغداد، وهي قصة مشهورة في كتب التاريخ والتراجم، وخلاصتها أنه لما قدِم بغداد أراد علماء الحديث اختباره، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، ودفعوها إلى عشرة أشخاص، كل واحد منهم عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا تلك المرويات على البخاري، فلما عرضوها عليه كان يقول في كل رواية: لا أعرفها، حتى إذا فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فقد قلت فيه كذا وكذا، والصواب أنه كذا كذا، وقلت في الحديث الثاني كذا وكذا، والصواب أنه كذا وكذا، ... إلخ حتى قام بتصحيحها كلها، فعجب الناس من ذكائه الخارق، أولا في حفظه لتلك المرويات المائة التي تعمّدوا الخطأ فيها وقد سمعها منهم لمرة واحدة، وثانيا لحفظه واتقانه للمرويات الصحيحة، فلم يختلط عليه سند حديث بمتن حديث آخر.

يظن بعض الناس أن كتاب البخاري حظي بهذا القبول عند أهل العلم بسبب المجاملة والشهرة، وهذا تصوّر ساذج لا يقوله متخصص في علم الحديث، فكتاب البخاري تعرّض لعملية تقييم ومراجعة هائلة تتجاوز كل التصورات، سواء في حياة المؤلف أم بعد مماته، ففي حياته تم عرض الكتاب على كبار المحدثين في عصره، وتفحصوه حرفا حرفا، قال أبو جعفر العقيلي: (لما صنّف البخاري كتاب الصحيح عرضه على: علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث). قال العقيلي: (والقول فيها قول البخاري). [فتح الباري 1/ 489]، فأنت ترى أن كبار المحدثين في عصره قاموا بمراجعة الكتاب وهم أهل الاختصاص، وبعضهم من مشايخ البخاري نفسه، وسلّموا بصِحته ومتانته، ولم يبلغ مقدار ما انتقدوه منه إلا أربعة أحاديث انتقدها بعضهم، والمحققون من أهل العلم يقولون إن القول الصحيح فيها ما قاله البخاري، وبعد موت البخاري قام المتخصصون في جميع القرون بدراسة صحيح البخاري، وقاموا بتقييمه وفحصه حرفا حرفا، وسلّموا جميعا بمنزلته وإتقانه، وإذا أردت أن تعرف طرفا من ذلك فارجع لكتاب (هدي الساري لابن حجر) الذي جعله مُؤلفه مقدمة لكتابه (فتح الباري شرح صحيح البخاري)، فصحيح البخاري في الواقع ليس كتابا صادرا عن البخاري وحسب، وليس جهدا فرديا قام به شخص واحد فقط، بل هو كتاب حظي بالتحكيم والتقييم والمراجعة من كبار المتخصصين في علم الحديث، فهو جهد جماعي للمتخصصين في هذا الفن من كل عصر.

يتوهم بعض الناس أن البخاري هو أول من ألّف كتابا في الحديث، ويقولون أين كان التأليف خلال مائتي سنة قبل البخاري؟! ومن أين جاء البخاري بهذه الروايات؟! وهذه معلومة غير صحيحة؛ فقد ألّف قبل البخاري عدد كبير من العلماء من بلاد شتى في العالم الإسلامي، منهم الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، والإمام مالك بالمدينة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمر وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي بالشام، والثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، وعبيد الله بن موسى العبسي، ومسدد بن مسرهد، وأسد بن موسى، ونعيم بن حماد نزيل مصر، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الرزاق الصنعاني، وزيد بن علي ... إلخ، وأكثر هؤلاء قد روى عنهم البخاري في صحيحه، وإنما تميّز البخاري عمن قبله بأنه جمع الأحاديث الصحيحة وحدها، وكانت شروطه في اختيار الأحاديث الصحيحة شروطا قوية ومتشددة، واعتنى بكتابه عناية فائقة، والأمر الأهم أنه نجح في كل مراحل التقييم والمراجعة التي يمر بها كل كتاب من كتب الحديث عند المتخصصين في علم الحديث كما مضى بيانه، وهذا معنى كلام أهل العلم في صحيح البخاري أنه (تلقّته الأمة بالقبول).

والخلاصة أن الشبهة المذكورة في السؤال متهافتة، وقد اعتمدت على نقل محرّف ومغلوط، وتم فهم العبارة بطريقة غير صحيحة وغير علمية.
والله المستعان.