2021-07-26 19:01:38
تحت ظِلاله فقالت: "يا بني طبتَ حيًّا وميّتًا، ولا والله ما أجزعُ لِفراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثْنِيَنّ عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بُني مُسلمًا محرمًا ظمآن الهواجر مصلّيًا في ليلك ونهارك".
ثم أقبلتْ وجهها السماءَ ومدّت بيديها تدعو:"اللهمَّ إني قد سلَّمته لأمرك فيه ورضيتُ بما قضيتَ له، فأثبني في عبد الله ثوابَ الشاكرين الصابرين. اللهمّ ارحم طولَ ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبرَّهُ بأبيه وبي".
ووجم الناس وجمةً واحدةً، وخشعوا خشعةً لكأن السماءَ والأرض صارتا رتقًا فما يتنفسُ من تنفّس إلا من تحتِ الهم والجهد والبلاء. وكأنّ مكة بيتٌ قد غُلِّقتْ عليه أبوابهُ لا ينفُذُ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماءُ بينهم وكأن وجهها سراج قد نُصّ على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد ، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغتْ من العمر وما سقطت لها سنٌّ، ومازال ثغرها ترف غروبه ثم قالت: "يا بَنيَّ، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيرًا".
وأطرقت أسماءُ إطراقةً ثم رفعت رأسها تُومِئُ إلى الخشبة، فوالله لقد رعدت فرائصى حتى تَزَايلتْ أوْصالى، وصَرَّ الناسُ كأنما تقصفت أصلابُهم ،وإذا هي تقول: "أَلَا مَنْ مُبلغ الحجّاج أن المُثْلَة سبّة للحىّ وما تضرّ الميّت. ألا مَنْ يبلِغ الحجاجَ عنِّي أن الشَّاةَ إذا ذُبحَتْ لم تألم السلْخ".
وحامتْ أسماءُ وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يُرَى إلّا بريق وجهها يومِضُ كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردّد "يا بَني، أمَا آن لهذا الراكبِ أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بَني ليستأذنْ أحدُكم حَجَّاجَكمُ هذا أن يَدفَع إلي هذه العظام. أَدوا عني، يرحم الله من أَدَّى عنِّي".
فيجئ الرسول من قِبل الحجاج يأبى عليها أن تُدفَعَ إليها عظَامُ ابنها المصلوب، ويَجئُ على أثره موكلون قد وكلهم بجثَّته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خَشِى أن يَحيا ميت قد حُز رأسه أن تمسهُ يَدُ أُمِّه. فوالله، فوالله لقد سمعت أسماءُ وخُبِّرتْ فما زادت على أن وَلتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دمع، وما تُجاوز قويًّا إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاط يتقوَّض، حتى ولجت بابَها وغلقَته عليها.
وانطلقتُ أنفضُ الناس بعيني، فرأيت أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع، انطلقوا بنا -يرحمكم الله- إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّف أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالق كبدَها ما لَقِيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق، فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ.فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تَجِفُ قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوج حواريه -عليه السلام-، وكأن قد تركنا الدنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.
استضحكت أَسماءُ حتى بدت نواجذُها وقالت:"مرحبا بكم يا بَنّي، جئتم من خلل الناس تعزون أمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكم لقد كان صواما قوَّاما ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزبير أوّل رجل سل سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر.
يا بَني، والله لقد حملتُه على عُسرَة، والمسلمون يومئذ قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطَّفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنينا بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبي بكر - رضي الله عنه - آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام، ويسكن الطلب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصامًا ، فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجِدُ إلا نطاقي وأنا حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر يا أسماءٌ شقيه اثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذات النطاقين" يعني في الجنة. وأعود بعبد الله يرتكض في أحشائى، قد احتسبتُ نطاقي في سبيل الله، فوالله ما أجدني احتسبتُ بنىّ عبدَ الله اليوم إلا كما احتسبت نطاقي ذاكم. وأَعود إلى دار أبي بكر ويأتي نفرّ من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا ببابها، فأخرج إِليهم فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي، فيرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثًا- فيلطم خدي لطمة يطرح منها قُرطى فتغُول بي الأرض الفضاء، فوالله لما لقيتُ من حَجّاجكم هذا أهون عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل وأنا بعبد الله حاملٌ مُتم.
220 views16:01