Get Mystery Box with random crypto!

الذات المتشظية… التقيتُ بـ (م) ذا الثلاثين ربيعاً مع أخيه أول | إستشارة طبية

الذات المتشظية…

التقيتُ بـ (م) ذا الثلاثين ربيعاً مع أخيه أول مرة في العيادة، وكانت تبدو عليه أمارات الخجل والقلق من هذه الزيارة، وكان يتجنب قدر الإمكان أي اتصال بالعينين معي، ويكتفي بما يقدمه أخوه من إجابات. وعندما سألته عن سبب الحراجة من التواصل البصري، أفترض أنه يكافح "الأفكار الجنسية غير اللائقة" حين ينظر إلى شخص ما؛ إذ إن النظر المباشر يحرك في نفسه المواجع، ويتخيل جسد الطرف المقابل عارياً. على الرغم من الخجل والقلق الملموسين في الزيارة الأولى، كان م يمنح أنطباعاً بأن هذه العيادة مألوفة بسبب كثرة مراجعات الأطباء النفسيين لسنوات.

تبدأ الحكاية حين راودته أوهام متكررة بأنه كان مسؤولاً عن طرد بعض الطلبة في الجامعة بسبب اختراقه لموقعهم الإلكتروني وتقديمه ملاحظات فظّة عن أدائهم، وكان يعتقد أنه مصدر متاعب للآخرين، وعبء دائمي لعائلته وأصدقائه. وقد جاء، في إحدى الزيارات، يشكو من قلة النوم في الليلة السابقة لأنه كان يعتقد أن كلب جاره ينبح طوال الليل، لا لشيء إلا لينذره بأنه عرضة للمشاكل. تحدث م أيضًا عن اجتراره لفكرة أنه بيدوفيل بسبب أفكاره الاقحامية عن الأطفال - والأسوأ من ذلك، أن أفكاره "السيئة" يمكن أن تنتقل بالعدوى للآخرين.

سرعان ما تحولت النوبات الذهانية إلى تجربة مقلقة، بحيث أغرقت صاحبها في وحلٍ من أفكار وسلوكيات مختلّة. وتفاقمت الحالة في أواخر سنته الدراسية الأولى، ونقل عن أثرها إلى المستشفى بسبب سلوكه، وقلة عنايته بنفسه، وأفكاره الانتحارية. تتابعت بعد ذلك النوبات الذهانية ودخولات المستشفيات في صراع طويل على ما يبدو من الشيزوفرينيا المعندة للعلاجات.

وعلى الرغم من هذه النوبات المتعاقبة، تمكن م من إكمال دراسته الجامعية. وكان يسترجع أيام الطفولة والدراسة الجامعية في جلساتنا، على عكس تجهمه حين نتطرق إلى حالته النفسية، بشغف واهتمام كبيرين. يضاف إلى ذلك أن خلف ملامح م المتخشبة نتيجة تعاطي الأدوية، والشكوك الذاتية، والمعاناة، ثمة شخص حنون ومراعٍ. كان يواضب على التبرع بجزء من راتبه (لأنه موظف مخلص وعتيد) إلى الفقراء. وقد أعرب، في إحدى الزيارات، عن ارتياحٍ بالغ حين أدرك أن أفكاره الاقتحامية ليست معدية، وأنه غير مسؤول عن عدوى الآخرين بالوسواس القهري. لكن نادراً ما كان بالإمكان أن يفصح عن مشاعره باسترسالٍ وعفوية أو يجيب بإسهاب على الأسئلة التي أطرحها.

العظيم في م أنه يشعر، طوال المراجعات، بحنين وحزن إلى الذات القديمة. وذكر، في عدة محافل، أنه يستذكر بوجع بالغ كيف اعتاد ممارسة هواياته في المراهقة، وكيف يفتخر بنبوغه في الرياضيات والسباحة. لا يزال يحاول الخروج والسباحة حين تهدأ حدّة الوساوس ولا تشغل تفكيره، لكن أغلب الوقت يمضيه في المنزل يتفقد الرسائل، أو يشغل نفسه في الخروج إلى المتنبي حين لا يشعر أنه يسبب مشاكل للآخرين.

العظيم الذي علمني إياه (م) أنه، رغم مقاومته للأفكار، لكنه يعتقدها جزءاً لا يتجزأ من ذاته، وليست عارضاً يعاني منه، خصوصًا حين يتحدث عن النظر إلى أعضاء الآخرين التناسلية. لذلك قرر ملازمة المنزل وعدم الخروج. ولا يجد السلام والسكينة إلا في سواد الليل، حين يتنزه وحيداً في الطرقات بدون أن يشاهد أو يشاهده أي شخص كان. قال لي في آخر مراجعة "ذاتي أشبه بالمرآة المتشظية"، فأنا عدّة ذوات ولست بذات واحدة..! وليت صديقي يقتنع أن لكل شخص منا عدّة ذوات، وجميعنا متشظّون. ولكن الاختلاف أننا لا نعترف بذلك فقط…

النص مكتوبٌ بعد موافقة (م) بكل تأكيد
د. حميد يونس