2022-03-20 08:45:12
والوعظ هو سبيل المصلحين في كل زمان ومكان قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم}[لقمان:13]، وقال تعالى: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}[الأعراف:164].
فعلى معلمي الناس الخير من معلّمين في قاعات الدروس أيًّا كان الفنّ الذي يعلمه، والمهتمين بوسائل التواصل المعاصرة الاهتمام ببثّ الرسائل الوعظيّة الموجزة لقلوب طلابهم ومتابعيهم، فرب كلمة صادقة فتح الله بها قلبا غافلا أحياه بعد موته، فلا تبخل بالكلمة النافعة؛ قال الحسن بن صالح: قال زبيد: "سمعت كلمة فنفعني الله بها عز وجل ثلاثين عاما". وكم من أقوام سمعوا كلمة واحدة فأنارت بصائرهم فتحولت أمورهم إلى الجد والاستقامة وهجران الانحراف والفساد.
وتتأكّد أهميّة الوعظ والحاجة إليه في عصرنا الحاضر الذي غلبت عليه المادّيّات، وطغت الشهوات، وقست القلوب وتعلقت بالدنيا، وقحطت العيون، فكثير من ضلال المعاصرين مرجعه إلى قسوة القلوب وكبر النفوس لا لقلة العلم والمعرفة؛ فشابهوا أحبار اليهود، لهذا اشتدّت الحاجة لسياط مواعظ القلوب.
ومما يُنبّه إليه في هذا أنّ كثيرا ممّن يرددون شبه الإلحاد إنما أتوا من غفلة القلوب وغلبة الران عليها فيحسن ابتداؤهم بالوعظ ثم بالحجاج لأن الوعظ إذا نفع فإنه يزيل رواسب الرفض لقبول الحجج الصحيحة، تأمّل قوله تعالى:{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}[الأعراف:176] فالموعظة سابقة للفكرة.
ومع هذه الحاجة الملحة للوعظ نجد في مقابل ذلك قلة الناصح الواعظ الصادق، بل تعدّى الأمر إلى ازدراء الوعظ والتقليل من شأنه وأهله، ويزيد الأمر خطورة أن هذا التهوين والازدراء قد يرد على ألسنة بعض المنتسبين للعلم والفقه ومن المشتغلين بالقضايا الفكرية والثقافية، فيقال: هذا خطاب وعظي عاطفي ليس خطابا علميا دقيقا، ولا فكريا عميقا، ولا تحريراً وتحقيقاً يناسبنا، وإنما يصلح هذا للعامة والدهماء والبسطاء من الناس. وما علم هؤلاء أن المنتسبين للعلم والفقه والفكر هم أحوج الناس للخطاب الوعظي الذي يلين القلوب القاسية، وهي الشكوى المتكررة المسموعة منهم كثيرا وبخاصّة عند مشارف رحيلهم عن الدنيا.
يقول ابن الجوزي رحمه الله:"رأيت الانشغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالح".
ومع أنه قد دخل على بعض الوعّاظ والخطاب الوعظي بعض الخرافات والمنامات والإسرائيليات والمستحيلات والقصص المختلقة والأحاجي إلا أن هذا لا يسوغ التقليل من شأنه، بل يقتضي ضرورة تصحيح مساره وتنقية محتواه والتشديد في شأن حراسته من الإحداث والكذب حتى يعود إليه رونقه وصفاؤه ونقاؤه، وعلى الواعظ التزام شروط الوعظ وآدابه مراعيا صحة الخبر دليلا كان أو قصّة، وصدق النية، ومراعاة الحال والزمان والمكان ونحوها ليؤتي أكله بإذن الله.
وهجران الوعظ وازدراء أهله ليس من نوازل عصورنا المتأخرة، بل هو قديم قد سنّه المناؤون للرسل والمصلحين، وجعلوه ذريعة للصد عن سماع الحق والانتفاع به، وفي القرآن الكريم نماذج كثيره، من ذلك ما ذكره الله تعالى عن قوم هود عليه السلام لما نصح قومه قوم عاد وكان مما قال لهم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم}[الشعراء:135] وكان جوابهم: {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِين* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِين}[الشعراء:136-137].
وهو أحد مداخل الشيطان وأدوات تلبيسه على أهل العلم، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ومن تلبيسه عليهم أن يحسن لهم ازدراء الوعاظ ويمنعهم من الحضور عندهم فيقولون عن هؤلاء قصاص ومراد الشيطان ألّا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع، والقصاص لا يذمون من حيث هذا الاسم لأن الله عز وجل قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} وقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} وإنما ذمّ القصّاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد على ما أكثره محال فأما إذا كان القصص صدقا ويوجب وعظا فهو ممدوح وقد كان احمد بن حنبل يقول ما أحوج الناس إلى قاص صدوق".
نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا وأعمالنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب:
أ.د/عبد الله بن عمر الدميجي
582 views05:45