2022-05-03 17:41:40
وقفات مع مشكلة غياب عمق وشمول التأصيل الشرعي عند المهتمين بالمجال الفكري (١/٢)
تقود التحديات الجديدة إلى بروز اهتمامات علمية تتجاوب مع تلك التحديات، وقد تتضمن تلك الاهتمامات بعض التغير في أولويات التعلم، ودخولا في بعض المعارف التي تكشف حقائق الواقع وتجلي مكامن الخلل في الطرح المخالف وتساعد على نقده
وهنا يجب الانتباه إلى ضرورة تمييز منزلة تلك المعارف ووضعها في مكانها الصحيح دون مبالغة، فهي وسائل يرجع تحديد مقدار الدخول فيها إلى قدر الحاجة، وإلى الموازنة بينها وبين أولويات العلم الأخرى، وقد تحدثت عن شيء من ذلك في محاضرة (نحن والأولويات)
كما أن الدخول في بعض المجالات المعرفية يحتاج إلى تأصيل شرعي شمولي، لأن معارف تلك المجالات نشأت من منطلقات فلسفية غير متطابقة مع الرؤى الصحيحة التي ينطلق منها المسلم، وهذا ما يغفله كثير من الناس حين يظن أن تلك المجالات تقاس بمخرجاتها النهائية بطريقة استبعاد بعض المحذورات الشرعية فحسب، فينصبُّ النقد الشرعي على قياس الموافقة في المخرجات دون الالتفات للمنطلقات والسياقات الفلسفية، أو دون وعي كاف بذلك وبما يقابله من رؤى صحيحة في الإسلام، وقد تطرقت لما يوضح شيئا من ذلك في محاضرة (كمال المنطلقات العلمية في الإسلام)
وتمس الحاجة أيضا لمن سيتوسع في دخول تلك المجالات إلى عمق التأصيل الشرعي، وبعض الناس يظن أن ذلك يحتاج لتكوين شرعي مبدئي فحسب، ثم يكون التوسع في بعض مجالات ما يعرف بالعلوم الإنسانية، وقد شرحت سابقا أن الفكر يرتبط بالإدراك العميق للمعارف الشرعية، وأن الظن بأن الفكر يبنى بمجالات معرفية أخرى بعيدا عن ذلك العمق هو ظن فاسد، وذلك في محاضرة القراءة الفكرية
وقد شاهدت في الواقع نماذج كثيرة لمن اهتموا بمجالات الفكر بحماس دون تأصيل شرعي واسع عميق، أو دون اهتمام بالعلم الشرعي بالمعنى الأصيل الذي يزكي النفس وينعكس على السلوك، فلاحظت مظاهر لا تحمد من انحرافات السلوك التي تستغرب في طالب العلم، لأن هذه الظاهرة أنتجت إنسانا مختزلا في العلم الشرعي، بحيث يتصور فيه بعض المعارف الشرعية مع عدم ظهور أثر العلم على السلوك، مع ما يظهر من أوجه الخلل العلمي بسبب الاختزال المعرفي
بل ثمة من يقطع شوطا كبيرا في التعلم حتى يصل إلى الدراسات العليا في المجالات الفكرية، ويقارع بعضهم الفكر الغربي وفلسفاته ورموزه، ثم يقع في بعض الأخطاء الخطيرة، خاصة في فهم التمايز بين العقيدة الإسلامية وبين الفلسفات الفكرية، وهو الأمر الذي يتطلب دراسة المعتقد الصحيح بالتفصيل، فتجد بعضهم يكر على بعض أصول الفكر الغربي بشكل مبهر، ثم يتحدث ببساطة عن نقد بعض المفاهيم الفلسفية الغربية، ويهون الفرق بينها وبين مبادئ الإسلام، ويقع في خلط يهمل به بعض التقريرات العقدية والأحكام الشرعية المهمة
وهذا يبرز بصورة خاصة في بعض من يعيشون في الغرب، ولا أتحدث هنا عمن يذيبون تمايز المبادئ الإسلامية عن المبادئ الغربية بالكلية، بل أتحدث عمن يعي خطأ ذلك لكنهم يختزلون التمايز في صور معينة قد تكون من قبيل مخالفة الفطرة الصارخة مثل الشذوذ الجنسي، أو من قبيل الأصول الكبرى الفلسفة الغربية مثل مبدأ الحرية الليبرالي، ثم يهملون فروع ذلك من صور التمايز التي تعرف بتقريرات العقيدة والفقه، في مجالات هامة مثل مرجعية الشريعة الحاكمة وموقف المسلم من المرجعيات الأخرى، والولاء والبراء وأحكام أهل الذمة ومن في حكمهم، وغير ذلك مما يتصل بما يعرف بالإدماج للمسلمين في المجتمعات الغربية وقبول قيم الغرب
ولعل مرجع الخلل عند كثير من هؤلاء هو في الاكتفاء بما يشبه الثقافة العامة في التأصيل الشرعي المتعلق بهذه المسائل، فيَعرِف أحدهم مثلا قاعدة عدم الإكراه في الدين، لكنه لا يُحكم مجالها وضوابطها، فيطلق القول بإباحة أشياء للكفار الذي يعيشون تحت حكم المسلمين لم يقل بها أحد من أهل الملة بإطلاق بل قيدوها مثلا بعدم إظهارها بين المسلمين
ويأتي بعضهم إلى ما يعرف بفقه الواقع ومراعاة اختلاف الأحوال فيأخذه بلافتته العامة، ثم يصور ظروف المجتمع الغربي كأنها حاكمة بإطلاق ويجب مراعاتها في كل حال، وكأن أحكام الشرع في مرتبة واحدة يصح أن يترخص في كلها، بل ربما استعمل عبارات أشنع بدلا من الترخص، مثل عبارات عدم مناسبة الفتاوى لواقع المجتمع الغربي، والحديث هنا عن إطلاق ذلك وكأن كل فتوى يمكن أن تتأثر بذلك
1.3K viewsedited 14:41