2023-01-01 13:59:58
علم نفس “ما بعد الحداثة”
استنادًا إلى ثلاثية فرويد “ثورة كوبرنيكوس في الفلك، وثورة داروين في علم الأحياء، وثورة التحليل النفسي” ، فإن تحكُّم الإنسان بنفسه أو محيطه أصبح “خرافة”، وعلى هذا لم يعد بمقدور الإنسان امتلاك مفردة “الذات”، بل أصبح الإنسان عبارة عن علاقات وسياقات مختلفة [البنيوية فلسفة موت الإنسان، روجيه غارودي، ص12-14].
وإذا كانت تيارات الحداثة تدرس الظواهر لاستنباط القوانين الشمولية التي تنطبق على البشر في كل الأمكنة والأزمنة، فإن علم نفس “ما بعد الحداثة” يفصل بتعسف واضح بين “الذاتي” و”الموضوعي”، ويزعم أن دراسة أي ظاهرة نفسية لا تخضع لمبادئ ثابتة، لذا صار مجال البحث النفسي في ما بعد الحداثة متخصصا بالفرعي والهامشي في الحياة اليومية [علم نفس ما بعد الحداثة، د. إبراهيم الحيدري].
وسنوجز دراستنا لتطور هذا العلم “المابعد حداثي” في المرحلتين الآتيتين:
1- فرويد وبَدء التحليل النفسي:
ابتدأت المرحلة المتطورة من علم النفس باختراع طبيب النفس النمساوي اليهودي سيغموند فرويد لطريقة “التحليل النفسي” في معالجة مرضاه، فصارت هذه الممارسة بداية علم النفس الحديث، وشملت وجهي الممارسة التحليلية (الشعور/ اللاشعور) [المعجم الفلسفي، جميل صليبا].
تمتلئ النصوص “الفرويدية” بمصطلحات شديدة الوضوح أحيانًا وشديدة التعقيدة أحياناً أخرى، كالحياة والموت واللذة والأنا والهو، ولذلك كان عمل فرويد تأويليًّا [خمسون مفكرا أساسيًّا معاصرًا، 57]، ومن الجدير ذكره أن فرويد يقيم نظريته بناء على بطلان مفهوم الطبيعة العاقلة للإنسان ونقض اعتباره كائنًا متميزًا بالعقل واللغة؛ فنظريته لم تنطلق من العقل بل من الدوافع البشرية، وإذا كان السلوك الإنساني غرائزيا فإن سلوكه الاجتماعي والحضاري لن يُفهم من منظور “التسامي الذاتي” وإنما من مبدأ الرغبة والاحتياج المكبوت.
لقد كانت نظرية “الدوافع” جوهرية في نظرية فرويد، فلفهم الإنسان لا بد من فهم دوافعه، إلا أن التفسير غالبًا ما يكون ناقصًا لأن هناك أسبابا مخفية تسبّب الدوافع، وهذه الأسباب غير واعية وتعمل في داخلنا ونحن على غير معرفة بها، فحين يزل اللسان أو يرى شخص حلمًا فمن الطبيعي ألا نهتم لما خلف ذلك، إلا أن فرويد رأى أن خلف هذه الزلة وتلك الأحلام دوافع تكشف عن المعنى الكامل لهذه الأحداث التي تبدو عشوائية.
وتستند هذه الفرضية إلى أساسين مهمين:
أولهما: الأعمال الغريزية التي رأى فرويد أنها تظهر الحقيقة النفسية، كغريزة السلوك الجنسي التي تحكم الأشياء المحببة للإنسان، وغريزة الهدم التي تقود إلى الإجرام والعدوان، فزعم فرويد أن السلوك البشري نتيجة للصراع بين هاتين الغريزتين أو التعاون بينهما [فرويد بين الحداثة وما بعد الحداثة 1-2، د. إبراهيم الحيدري].
والثاني: العمليات النفسية، فهناك أعمال شعورية “واعية”، وأعمال لا شعورية “غير واعية” أو ما قبل الشعورية، ويولي فرويد أهمية كبيرة لمبدأ “اللاشعور” في فهم دوافع الإنسان ونفسيته، فهو الذي يختزن القيم والمثل والعادات والميول والرغبات المكبوتة. كما أن من مهامه توجيه أفعال الإنسان السلوكية دون أن يعيها، وينقسم اللاشعور عنده إلى “لاشعور شخصي” وهو المكبوتات، ولا شعور جمعي” وهو الأفعال والأعراف الجماعية، كتفضيل نوع من الممارسات على غيرها أو الاعتقاد بأساطير خاصة.
وأعطى فرويد مفهوم اللاوعي بُعدًا كونيًا فجعله المحرّك والمفسر للنفس الإنسانية، ومن هنا ظهرت الحركة السريالية في الفن التي يتعمد من خلالها الفنان رسم لوحاته وهو في حالة سُكر أو غيبوبة لاستخراج الأفكار والرؤى الباطنية [أثر نظرية فرويد على السريالية (سلفادور دالي أنموذجاً) د. فاطمة عمران راجي، ص115].
2- جاك لاكان وتصحيح الفرويدية:
على الرغم من تعدُّد مدارس علم النفس التي ظهرت بعد مدرسة التحليل النفسي، إلا أنَّ مدرسة فرويد ظلت أكثرها شهرةً وتأثيراً في الحقول الإنسانيَّة، ومع أنَّ العديد من تلامذة فرويد عارضوا نظرية “الدافع الجنسي”، إلا أنهم التزموا بتصحيح رؤيته لا نقضها، ومن ثم فإن نظرية علم نفس ما بعد الحداثة للمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان تعد صيحة العودة إلى الفرويدية، بغية إعادة قراءتها من جديد.
لقد صبّت قراءة لاكان لنظرية فرويد في مصلحة دعم تيارات “ما بعد الحداثة”، خاصة “التفكيكية” و”ما بعد البنيوية”، فارتكزت أعماله على محاولة فهم نظرية فرويد وإعادة صياغة مفاهيمها بالجمع بين الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) وعلم اللسانيات والفلسفة والرياضيات.
استطاع لاكان اختزال مقولات فرويد كلها في مصطلح “اللاوعي”، واللاوعي هو فضاء هلاميٌّ مبني على الرموز، وقد اشتُهر عند فرويد ومن بعده على أنّه جزء لا ينفصل عن الغرائز، إلا أن لاكان قدّم طرحا جديدا هو “لغوية اللاوعي”، وهذه اللغة تختلف مع علامات اللغة الكتابية في فهم الأشياء ضمن حالة الوعي، ما يعني إمكانية قراءة الأحلام وتفسيرها وإدراكها على أنّها مجموعة لغوية تتشكل من علامات واسعة.
1.2K views10:59