2021-07-26 06:03:39
قـصـص و؏ــبـر
#قصة_الأندلس_من_الفتح_حتى_السقوط(84)
عصر ملوك الطوائف
الصراع بين إشبيلية وقرطبة
أطماع بني عباد في قرطبة
بدأ الصراع بين إشبيلية وقرطبة مبكِّرًا منذ أن بدأت أحداث الفتنة في بلاد الأندلس، وسنلاحظ دائمًا أن إشبيلية في ظلِّ بني عباد هي الطامع الذي لا يقنع إلاَّ بامتلاك ما في يد الآخرين، وكانت قرطبة محلَّ نظر بني عباد منذ أن استقلَّ القاضي أبو القاسم بن عباد بإشبيلية سنة (414هـ=1023م)، وظَلَّت عينه على قرطبة؛ إذ تُمَثِّل قرطبة مدينة الأندلس الأولى، ومحلَّ الخلافة المنصرمة، وإليها تهفو نفوس الأندلسيين من كل حدب وصوب، وكان أهل قرطبة وعلى رأسهم حاكمها الوزير جهور على علم بكل ذلك، وما يُخفيه ابن عباد وغيره من طمع فيها.
الوزير جهور وموقفه من دعوة ابن عباد لهشام المؤيد
كان من أشهر أعمال القاضي أبي القاسم بن عباد أثناء ولايته على نحو ما ذكرنا في المقالات السابقة دعوته بظهور الخليفة هشام المؤيد وذلك سنة (426هـ=1035م)، ولم تكن نية ابن عباد من وراء ذلك إلا دحضًا لدعوى الحموديين بالخلافة؛ فالخليفة الشرعي قد بان وظهر، ومن ناحية أخرى إضفاء للشرعية السياسية في تدبيره وحكمه لإشبيلية؛ فهو يتوسَّع بأمر الخليفة الشرعي للأندلس كلها، الذي لا يملك من أمره شيئًا، وإنما الأمر والتدبير لابن عباد، الذي يُمْلِي عليه ما يُريد، والحقيقة أن هذا لم يكن خافيًا على ملوك الطوائف وخاصة الوزير ابن جهور حاكم قرطبة.
وبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة للمدعوِّ هشام المؤيد بإشبيلية، أرسل رسله إلى أمراء الأندلس يطلب منهم أخذ البيعة والنزول على حكم الخليفة الشرعي، بيد أنه لم يعترف به أحدٌ، سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، والموفق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية وصاحب طرطوشة[1]، وما يعنينا هنا هو موقف الوزير ابن جهور؛ إذ إن موقفه يهم ابن عباد والوزير نفسه؛ فابن عباد يعلم ثقل قرطبة في الأندلس، ويعلم ثقل الوزير ابن جهور ومكانته بين ملوك الطوائف، وسيطرته على قرطبة فاتحة له في السيطرة على الأندلس كلها، وأما الوزير ابن جهور فمع علمه بكذب الدعوة وافترائها، فهو يُريد أن يتخذها ذريعة لدفع دعوى الحموديين، الذين أرهقوه بغاراتهم على قرطبة محلِّ خلافتهم المزعومة، وامتلاكه لقوَّة ابن عباد سبيل لهذا الدفع.
بيد أن أهل قرطبة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وأعلنوه إمامًا للجماعة في الأندلس، ورفض ابن جهور في بادئ الأمر، وكادت أن تقوم ثورة ضدَّه في قرطبة، فأرسل رسله للوقوف على صحَّة ما يدَّعيه ابن عباد، ويبدو أنه باع دينه بعرض من الدنيا، وزوَّر شهادته، وأثبت صحَّة دعوى ابن عباد؛ ليدفع الحموديين عن قرطبة، وليُرْضِيَ أهل قرطبة ويدفعهم عنه، وأخذ ابن جهور البيعة لهشام المؤيد المزعوم، وخطب له في مساجد قرطبة وجامعها.
يبدو أن الوزير ابن جهور تراجع عن بيعته وأعلن كذب هذه الدعوة، وكان ذلك إيذانًا بالحرب بينه وبين ابن عباد، الذي جمع جيشه واتجه صوب قرطبة لإسقاطها بالقوَّة، وفرض الحصار على قرطبة أوائل (427هـ=1036م)، وأمر ابن جهور بسدِّ أبواب المدينة أمامه، ولم يجد القاضي ابن عباد جدوى من الحصار، فجمع جيشه وجرَّ أذيال خيبته أمامه ووراءه إلى إشبيلية[2].
المعتضد بن عباد وإثارة الفوضى داخل قرطبة
هدأت الأمور نوعًا ما بين إشبيلية وقرطبة، وانشغل كلٌّ من القاضي ابن عباد والوزير ابن جهور في توطيد مملكتيهما وحروبهما الأخرى، ومرَّت السنوات وتُوُفِّيَ القاضي ابن عباد، وملك من بعده المعتضد سنة (433هـ=1042م)، كما تُوُفِّي الوزير ابن جهور، وملك من بعده ابنه الوزير أبو الوليد محمد بن جهور سنة (435هـ=1044م)، وسارت الأمور هادئة، ولكن يبدو أن أبا الوليد آثر الراحة، فقدَّم ولده الأصغر عبد الملك على ولده الأكبر عبد الرحمن، وسيطر عبد الملك بن جهور على مقاليد قرطبة، وكانت بين عبد الملك والمعتضد صداقة ووُدٌّ، ولا يخفى علينا أنها صداقة مصالح، كما لا يخفى علينا أن المعتضد فاغر فاه على قرطبة يُريد أن ينتزعها، فكانت الصداقة تمهيدًا لما يُريد.
على كل حال سيطر عبد الملك بن جهور على قرطبة، إلاَّ أنه أساء السيرة، وسار بين الناس بالمعاصي، وعَمَّت الفوضى البلاد، فلما رأى ذلك أوكل أمور قرطبة سنة 440هـ إلى وزيره ابن السقاء؛ فضبط الأمور، وسار بين الناس بالعدل والحقِّ، وعاد الأمن والأمان مرَّة أخرى، وساد الاستقرار، وتقوَّت قرطبة بعد أن أصابها الضعف، والمعتضد بن عباد يُراقب الأمور عن كثب، وقرطبة كانت بين قاب قوسين أو أدنى منه؛ فعمد إلى الوقيعة بينه وبين وزيره وأوغر صدره عليه، حتى فتك به بكمين كمنه له، وكانت محنة الوزير ابن السقاء سنة (455هـ=1063م) [3].
79 viewsedited 03:03